قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} أَيْ: أَشْهَدَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ: {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا} قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: "أَنْ يَقُولُوا" وَيَقُولُوا بِالْيَاءِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: "شَهِدْنَا" قَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ نَفْسِهِ وَمَلَائِكَتِهِ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَى إِقْرَارِ بَنِي آدَمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِ بَنِي آدَمَ حِينَ أَشْهَدَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالُوا بَلَى شَهِدْنَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ، وَفِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: لَمَّا قَالَتِ الذُّرِّيَّةُ: بَلَى قَالَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ: اشْهَدُوا، قَالُوا: شَهِدْنَا، قَوْلُهُ: "أَنْ يَقُولُوا" يَعْنِي: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنْ يَقُولُوا، أَيْ: لِئَلَّا يَقُولُوا أَوْ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَقُولُوا، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أُخَاطِبُكُمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ لِئَلَّا تَقُولُوا: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} أَيْ: عَنْ هَذَا الْمِيثَاقِ وَالْإِقْرَارِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَلْزَمُ الْحُجَّةُ عَلَى أَحَدٍ لَا يَذْكُرُ الْمِيثَاقَ؟ قِيلَ: قَدْ أَوْضَحَ اللَّهُ الدَّلَائِلَ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ فِيمَا أَخْبَرُوا، فَمَنْ أَنْكَرَهُ كَانَ مُعَانِدًا نَاقِضًا لِلْعَهْدِ وَلَزِمَتْهُ الْحُجَّةُ، وَبِنِسْيَانِهِمْ وَعَدَمِ حِفْظِهِمْ لَا يَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بَعْدَ إِخْبَارِ الْمُخْبِرِ الصَّادِقِ صَاحِبِ الْمُعْجِزَةِ.
{أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (١٧٥) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} يَقُولُ: إِنَّمَا أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَيْكُمْ لِئَلَّا تَقُولُوا أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ: إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَنَقَضُوا الْعَهْدَ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ، أَيْ كُنَّا أَتْبَاعًا لَهُمْ فَاقْتَدَيْنَا بِهِمْ، فَتَجْعَلُوا هَذَا عُذْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَتَقُولُوا: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} أَفَتُعَذِّبُنَا بِجِنَايَةِ آبَائِنَا الْمُبْطِلِينَ، فَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَحْتَجُّوا بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ بَعْدَ تَذْكِيرِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَى التَّوْحِيدِ.
{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} أَيْ: نُبَيِّنُ الْآيَاتِ لِيَتَدَبَّرَهَا الْعِبَادُ، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} مِنَ الْكُفْرِ إِلَى التَّوْحِيدِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute