للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (٦١) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) }

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} يُبَادِرُونَ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} أَيْ: إِلَيْهَا سَابِقُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "لِمَا نُهُوا" أَيْ: إِلَى مَا نُهُوا، وَلِمَا قَالُوا وَنَحْوِهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: سَبَقُوا الْأُمَمَ إِلَى الْخَيْرَاتِ. قَوْلُهُ: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} أَيْ: طَاقَتَهَا، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْقِيَامَ فَلْيُصَلِّ قَاعِدًا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الصَّوْمَ فَلْيُفْطِرْ، {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، "يَنْطِقُ بِالْحَقِّ" يُبَيِّنُ بِالصِّدْقِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا إِلَّا مَا أَطَاقَتْ مِنَ الْعَمَلِ، وَقَدْ أَثْبَتْنَا عَمَلَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَهُوَ يَنْطِقُ بِهِ وَيُبَيِّنُهُ. وَقِيلَ: هُوَ كَتْبُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ الَّتِي تَكْتُبُهَا الْحَفَظَةُ، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} وَلَا يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَلَا يُزَادُ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ الْكُفَّارَ، فَقَالَ: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} أَيْ: فِي غَفْلَةٍ وَجَهَالَةٍ، {مِنْ هَذَا} أَيْ: مِنَ الْقُرْآنِ، {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} أَيْ: لِلْكُفَّارِ أَعْمَالٌ خَبِيثَةٌ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْخَطَايَا مَحْكُومَةٌ عَلَيْهِمْ مِنْ دُونِ ذَلِكَ، يَعْنِي مِنْ دُونِ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ "إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ"، {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا، فَيَدْخُلُوا بِهَا النَّارَ، لِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الشَّقَاوَةِ. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ لَهُمْ أَعْمَالًا سِوَى مَا عَمِلُوا مِنَ الْخَيْرَاتِ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} أَيْ: أَخَذْنَا أَغْنِيَاءَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ، {بِالْعَذَابِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ السَّيْفُ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي الْجُوعَ حِينَ دَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطَأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِّيِّ يُوسُفَ" (١) فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْقَحْطِ حَتَّى أَكَلُوا الْكِلَابَ وَالْجِيَفَ. {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} يَضِجُّونَ وَيَجْزَعُونَ وَيَسْتَغِيثُونَ، وَأَصْلُ الْجَأْرِ: رَفَعُ الصَّوْتِ بِالتَّضَرُّعِ.


(١) قطعة من حديث أخرجه البخاري في الدعوات، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة: ١١ / ١٩٣ - ١٩٤، ومسلم في المساجد، باب: استحباب القنوت في جميع الصلاة، برقم (٦٧٥) ١ / ٤٦٦ - ٤٦٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>