أُحُدٍ بَعْثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَائِفَةً فِي آثَارِهِمْ فَشَكَوْا أَلَمَ الْجِرَاحَاتِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَهِنُوا} (١) أَيْ: لَا تَضْعُفُوا {فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} فِي طَلَبِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ، {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ} تَتَوَجَّعُونَ مِنَ الْجِرَاحِ، {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ} أَيْ: يَتَوَجَّعُونَ، يَعْنِي الْكُفَّارَ، {كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} أَيْ: وَأَنْتُمْ مَعَ ذَلِكَ تَأْمُلُونَ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ وَالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا مَا لَا يَرْجُونَ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالرَّجَاءِ الْخَوْفُ، لِأَنَّ كُلَّ رَاجٍ خَائِفٌ أَنْ لَا يُدْرِكَ مَأْمُولَهُ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ أَيْ: تَخَافُونَ مِنَ اللَّهِ أَيْ: تَخَافُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَا لَا يَخَافُونَ، قَالَ الْفَرَّاءُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَا يَكُونُ الرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ إِلَّا مَعَ الْجَحْدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "قُلِ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ" (الْجَاثِيَةِ -١٤) أَيْ: لَا يَخَافُونَ، وَقَالَ تَعَالَى: "مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا" (نُوحٍ -١٣) أَيْ: لَا تَخَافُونَ لِلَّهِ عَظَمَتَهُ، وَلَا يَجُوزُ رَجَوْتُكَ بِمَعْنَى: خِفْتُكَ وَلَا خِفْتُكَ وَأَنْتَ تُرِيدُ رَجَوْتُكَ {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (١٠٥) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} الْآيَةَ، رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ طُعْمَةُ بْنُ أُبَيْرِقٍ مِنْ بَنِي ظَفْرِ بْنِ الْحَارِثِ سَرَقَ دِرْعًا مِنْ جَارٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَكَانَتِ الدِّرْعُ فِي جِرَابٍ فِيهِ دَقِيقٌ فَجَعَلَ الدَّقِيقُ يَنْتَثِرُ مِنْ خَرْقٍ فِي الْجِرَابِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الدَّارِ، ثُمَّ خَبَّأَهَا عِنْدَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ السَّمِينِ، فَالْتَمَسْتُ الدِّرْعَ عِنْدَ طُعْمَةَ فَحَلَفَ: بِاللَّهِ مَا أَخَذَهَا وَمَا لَهُ بِهَا مِنْ عِلْمٍ، فَقَالَ أَصْحَابُ الدِّرْعِ: لَقَدْ رَأَيْنَا أَثَرَ الدَّقِيقِ حَتَّى دَخَلَ دَارَهُ، فَلَمَّا حَلَفَ تَرَكُوهُ وَاتَّبَعُوا أَثَرَ الدَّقِيقِ إِلَى مَنْزِلِ الْيَهُودِيِّ فَأَخَذُوهُ مِنْهُ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ دَفْعَهَا إِلَيَّ طُعْمَةُ بْنُ أُبَيْرِقٍ، فَجَاءَ بَنُو ظَفْرٍ وَهُمْ قَوْمُ طُعْمَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلُوهُ أَنْ يُجَادِلَ عَنْ صَاحِبِهِمْ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلِ افْتَضَحَ صَاحِبُنَا، فَهَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَاقِبَ الْيَهُودِيَّ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ طُعْمَةَ سَرَقَ الدِّرْعَ فِي جِرَابٍ فِيهِ نُخَالَةٌ فَخَرَقَ الْجِرَابَ حَتَّى كَانَ يَتَنَاثَرُ مِنْهُ النُّخَالَةُ طُولَ الطَّرِيقِ فَجَاءَ بِهِ إِلَى دَارِ زَيْدٍ السَّمِينِ وَتَرَكَهُ عَلَى بَابِهِ، وَحَمَلَ الدِّرْعَ إِلَى بَيْتِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ صَاحِبُ الدِّرْعِ جَاءَ عَلَى أَثَرِ النُّخَالَةِ إِلَى دَارِ زَيْدٍ السَّمِينِ فَأَخَذَهُ وَحَمَلَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْطَعَ يَدَ زَيْدٍ الْيَهُودِيِّ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ زَيْدًا
(١) انظر: البحر المحيط: ٣ / ٣٤٢، سيرة ابن هشام مع الروض الأنف: ٢ / ١٤٤، وفيما سبق في تفسير سورة آل عمران.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute