قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} الْحَصُورُ أَصْلُهُ مِنَ الْحَصْرِ وَهُوَ الْحَبْسُ. وَالْحَصُورُ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ: الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَقْرَبُهُنَّ، وَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ يَعْنِي أَنَّهُ يَحْصُرُ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ [وَقِيلَ: هُوَ الْفَقِيرُ الَّذِي لَا مَالَ] (١) لَهُ فَيَكُونُ الْحَصُورُ بِمَعْنَى الْمَحْصُورِ يَعْنِي الْمَمْنُوعَ مِنَ النِّسَاءِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ لَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ وَقَدْ تَزَوَّجَ مَعَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَغَضَّ لِبَصَرِهِ. وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّ الْحَصُورَ هُوَ الْمُمْتَنِعُ مِنَ الْوَطْءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. وَاخْتَارَ قَوْمٌ هَذَا الْقَوْلَ لِوَجْهَيْنِ {أَحَدُهُمَا} : لِأَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ الثَّنَاءِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى استحقاق الثناء، و {الثاني} : أَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ إِلْحَاقِ الْآفَةِ بِالْأَنْبِيَاءِ.
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (٤٠) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {قَالَ رَبِّ} أَيْ يَا سَيِّدِي، قَالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، هَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَقِيلَ: قَالَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَنَّى يَكُونُ} أَيْنَ يَكُونُ {لِي غُلَامٌ} أَيِ ابْنٌ {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ أَيْ وَقَدْ بَلَغْتُ الْكِبَرَ وَشِخْتُ كَمَا يُقَالُ بَلَغَنِي الْجَهْدُ أَيْ أَنَا فِي الْجَهْدِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَقَدْ الْكِبَرُ وَأَدْرَكَنِي وَأَضْعَفَنِي. قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ زَكَرِيَّا يَوْمَ بُشِّرَ بِالْوَلَدِ ابْنَ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ابْنُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ ابْنَ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ بِنْتَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} أَيْ عَقِيمٌ لَا تَلِدُ يُقَالُ: رَجُلٌ عَاقِرٌ وَامْرَأَةٌ عَاقِرٌ، وَقَدْ عَقُرَ بِضَمِّ الْقَافِ يَعْقِرُ عُقْرًا، وَعُقَارَةً {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} فَإِنْ قِيلَ لِمَ قَالَ زَكَرِيَّا بَعْدَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} أَكَانَ شَاكًّا فِي وَعْدِ اللَّهِ وَفِي قُدْرَتِهِ؟ قِيلَ: إِنَّ زَكَرِيَّا لَمَّا سَمِعَ نِدَاءَ الْمَلَائِكَةِ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: يَا زَكَرِيَّا إِنَّ الصَّوْتَ الَّذِي سَمِعْتَ لَيْسَ هُوَ مِنَ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلَوْ كَانَ مِنَ اللَّهِ لَأَوْحَاهُ إِلَيْكَ كَمَا يُوحِي إِلَيْكَ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ، فَقَالَ ذَلِكَ دَفْعًا لِلْوَسْوَسَةِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ، وَجَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَشُكَّ فِي وَعْدِ اللَّهِ إِنَّمَا شَكَّ فِي كَيْفِيَّتِهِ أَيْ كَيْفَ ذَلِكَ؟
(١) في "ب": "وقال سعيد بن المسيب: هو العنين الذي لا ماء له. . . ".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute