للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْغَنَمِ فَوَقَعَتْ فِيهِ حَكَّةٌ فَحَكَّ بِأَظْفَارِهِ حَتَّى سَقَطَتْ كُلُّهَا ثُمَّ حَكَّهَا بِالْمُسُوحِ الْخَشِنَةِ حَتَّى قَطَعَهَا، ثُمَّ حَكَّهَا بِالْفَخَّارِ وَالْحِجَارَةِ الْخَشِنَةِ، فَلَمْ يَزَلْ يَحُكُّهَا حَتَّى نَغِلَ لَحْمُهُ، وَتَقْطَّعَ وَتَغَيَّرَ وَأَنْتَنَ، وَأَخْرَجَهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ فَجَعَلُوهُ عَلَى كُنَاسَةٍ، وَجَعَلُوا لَهُ عَرِيشًا، فَرَفَضَهُ خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ غَيْرَ امْرَأَتِهِ، وَهِيَ رَحْمَةُ بِنْتُ أَفْرَاثِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ كَانَتْ تَخْتَلِفُ إِلَيْهِ بِمَا يُصْلِحُهُ وَتَلْزَمُهُ، فَلَمَّا رَأَى الثَّلَاثَةُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُمْ: يَقِنُ وَيَلْدَدُ وَصَافِرُ مَا ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِهِ اتَّهَمُوهُ وَرَفَضُوهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتْرُكُوا دِينَهُ، فَلَمَّا طَالَ بِهِ الْبَلَاءُ انْطَلَقُوا إِلَيْهِ فَبَكَّتُوهُ وَلَامُوهُ وَقَالُوا لَهُ: تُبْ إِلَى اللَّهِ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي عُوقِبْتَ بِهِ، قَالَ: وَحَضَرَهُ مَعَهُمْ فَتًى حَدِيثُ السِّنِّ قَدْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ تَكَلَّمْتُمْ أَيُّهَا الْكُهُولُ، وَكُنْتُمْ أَحَقَّ بِالْكَلَامِ مِنِّي لِأَسْنَانِكُمْ، وَلَكِنْ قَدْ تَرَكْتُمْ مِنَ الْقَوْلِ أَحْسَنَ مِنَ الَّذِي قُلْتُمْ، وَمِنَ الرَّأْيِ أَصْوَبَ مِنَ الَّذِي رَأَيْتُمْ، وَمِنَ الْأَمْرِ أَجْمَلَ مِنَ الَّذِي أَتَيْتُمْ، وَقَدْ كَانَ لِأَيُّوبَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْحَقِّ وَالذِّمَمِ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي وَصَفْتُمْ، فَهَلْ تَدْرُونَ أَيُّهَا الْكُهُولُ حَقَّ مَنِ انْتَقَصْتُمْ وَحُرْمَةَ مَنِ انْتَهَكْتُمْ، وَمَنِ الرَّجُلُ الَّذِي عِبْتُمْ وَاتَّهَمْتُمْ؟ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَيُّوبَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ وَصَفْوَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا، ثُمَّ لَمْ تَعْلَمُوا وَلَمْ يُطْلِعْكُمُ اللَّهُ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ سَخِطَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ مُنْذُ آتَاهُ اللَّهُ مَا آتاه إلى يومك هَذَا، وَلَا عَلَى أَنَّهُ نَزَعَ مِنْهُ شَيْئًا مِنَ الْكَرَامَةِ الَّتِي أَكْرَمَهُ بِهَا، وَلَا أَنَّ أَيُّوبَ قَالَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ فِي طُولِ مَا صَحِبْتُمُوهُ إِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا، فَإِنْ كَانَ الْبَلَاءُ هُوَ الَّذِي أَزْرَى بِهِ عِنْدَكُمْ وَوَضَعَهُ فِي أَنْفُسِكُمْ فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي الْمُؤْمِنِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِينَ، وَلَيْسَ بَلَاؤُهُ لِأُولَئِكَ بِدَلِيلٍ عَلَى سُخْطِهِ عَلَيْهِمْ وَلَا لِهَوَانِهِ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُ كَرَامَةٌ وَخِيَرَةٌ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَ أَيُّوبُ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ بِهَذِهِ المَنْزِلَةِ إِلَّا أَنَّهُ أَخٌ أَحْبَبْتُمُوهُ عَلَى وَجْهِ الصُّحْبَةِ لَكَانَ لَا يَجْمُلُ بِالْحَلِيمِ أَنْ [يَعْذِلَ] (١) أَخَاهُ عِنْدَ الْبَلَاءِ، وَلَا يُعَيِّرَهُ بِالْمُصِيبَةِ، وَلَا يَعِيبَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ وَهُوَ مَكْرُوبٌ حَزِينٌ، وَلَكِنَّهُ يَرْحَمُهُ وَيَبْكِي مَعَهُ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ، وَيَحْزَنُ لِحُزْنِهِ، وَيَدُلُّهُ عَلَى مَرَاشِدِ أَمْرِهِ، وَلَيْسَ بِحَلِيمٍ وَلَا رَشِيدٍ مَنْ جَهِلَ هَذَا، فَاللَّهَ اللَّهَ أَيُّهَا الْكُهُولُ وَقَدْ كَانَ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ، وَذِكْرِ الْمَوْتِ مَا يَقْطَعُ أَلْسِنَتَكُمْ، وَيَكْسِرُ قُلُوبَكُمْ، أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا أَسْكَتَتْهُمْ خَشْيَةٌ مِنْ غَيْرِ عِيٍّ وَلَا بُكْمٍ، وَأَنَّهُمْ لَهُمُ الْفُصَحَاءُ الْبُلَغَاءُ النُّبَلَاءُ الْأَلِبَّاءُ الْعَالِمُونَ بِاللَّهِ، وَلَكِنَّهُمْ إِذَا ذَكَرُوا عَظَمَةَ اللَّهِ انْقَطَعَتْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَاقْشَعَرَّتْ جُلُودُهُمْ، وَانْكَسَرَتْ قُلُوبُهُمْ، وَطَاشَتْ عُقُولُهُمْ إِعْظَامًا وَإِجْلَالًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا اسْتَفَاقُوا مِنْ ذَلِكَ اسْتَبَقُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْأَعْمَالِ الزَّاكِيَةِ يَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ مَعَ الظَّالِمِينَ وَالْخَاطِئِينَ، وَإِنَّهُمْ لَأَبْرَارٌ بَرَءَاءُ، وَمَعَ الْمُقَصِّرِينَ وَالْمُفَرِّطِينَ، وَإنَّهُمْ لَأَكْيَاسٌ أَقْوِيَاءُ، فَقَالَ أَيُّوبُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَزْرَعُ الْحِكْمَةَ بِالرَّحْمَةِ فِي قَلْبِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَمَتَى نَبَتَتْ فِي الْقَلْبِ يُظْهِرُهَا اللَّهُ عَلَى اللِّسَانِ، وَلَيْسَتْ تَكُونُ الْحِكْمَةُ مِنْ قِبَلِ السِّنِّ وَالشَّيْبَةِ وَلَا طُولِ التَّجْرِبَةِ، وَإِذَا جَعَلَ اللَّهُ الْعَبْدَ حَكِيمًا فِي الصِّبَا لَمْ تُسْقَطْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ وَهُمْ يَرَوْنَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ نُورَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُمْ أَيُّوبُ وَأَقْبَلَ عَلَى رَبِّهِ مُسْتَغِيثًا بِهِ مُتَضَرِّعًا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَبِّ لِأَيِّ شَيْءٍ خَلَقْتَنِي لَيْتَنِي إِذْ كَرِهْتَنِي لَمْ تَخْلُقْنِي يَا لَيْتَنِي قَدْ عَرَفْتُ الذَّنْبَ الَّذِي أَذْنَبْتُ، وَالْعَمَلَ الَّذِي عَمِلْتُ، فَصَرَفْتَ وَجْهَكَ الْكَرِيمَ عَنِّي، لَوْ كُنْتَ أَمَتَّنِي فَأَلْحَقْتَنِي بِآبَائِي الْكِرَامِ، فَالْمَوْتُ كَانَ أَجْمَلَ بِي أَلَمْ أَكُنْ لِلْغَرِيبِ دَارًا، وَلِلْمِسْكِينِ قَرَارًا، وَلِلْيَتِيمِ وَلِيًّا، وَلِلْأَرْمَلَةِ قَيِّمًا، إِلَهِي أَنَا عَبْدُكَ إِنْ أَحْسَنْتُ فَالْمَنُّ لَكَ، وَإِنْ أَسَأْتُ فَبِيَدِكَ عُقُوبَتِي، جَعَلْتَنِي +عَرَضًا، وَلِلْفِتْنَةِ نَصْبًا، وَقَدْ وَقَعَ عَلَيَّ بَلَاءٌ لَوْ سَلَّطْتَهُ عَلَى جَبَلٍ ضَعُفَ عَنْ حَمْلِهِ، فَكَيْفَ يَحْمِلُهُ ضَعْفِي وَإِنَّ قَضَاءَكَ هُوَ الَّذِي أَذَلَّنِي، وَإِنَّ سُلْطَانَكَ هُوَ الَّذِي أَسْقَمَنِي وَأَنْحَلَ جِسْمِي، وَلَوْ أَنَّ رَبِّي نَزَعَ الْهَيْبَةَ الَّتِي فِي صَدْرِي وَأَطْلَقَ لِسَانِي حَتَّى أَتَكَلَّمَ بِمَلْءِ فَمِي بِمَا كَانَ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُحَاجَّ عَنْ نَفْسِهِ لَرَجَوْتُ أَنْ يُعَافِيَنِي عِنْدَ ذَلِكَ مِمَّا بِي، وَلَكِنَّهُ أَلْقَانِي وَتَعَالَى عَنِّي فَهُوَ يَرَانِي وَلَا أَرَاهُ وَيَسْمَعُنِي وَلَا أَسْمَعُهُ، لَا نَظَرَ إِلَيَّ فَيَرْحَمُنِي، وَلَا دَنَا مِنِّي وَلَا أَدْنَانِي فَأُدْلِي بِعُذْرِي وَأَتَكَلَّمُ ببراءتي وأخاصم ٢٠/أعَنْ نَفْسِي (٢) فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ أَيُّوبُ وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ أَظَلَّهُ غَمَامٌ حَتَّى ظَنَّ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، ثُمَّ نُودِيَ يَا أَيُّوبُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: هَا أَنَا قَدْ دَنَوْتُ مِنْكَ وَلَمْ أَزَلْ مِنْكَ قَرِيبًا قُمْ فَأَدْلِ بِعُذْرِكَ، وَتَكَلَّمْ بِبَرَاءَتِكَ، وَخَاصِمْ عَنْ نَفْسِكَ، وَاشْدُدْ إِزْرَكَ، وَقُمْ مَقَامَ جَبَّارٍ يُخَاصِمُ جَبَّارًا إِنِ اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَاصِمَنِي إِلَّا جَبَّارٌ مِثْلِي، لَقَدْ +مَنَّتْكَ نَفْسُكَ يَا أَيُّوبُ أَمْرًا مَا تَبْلُغُ بِمِثْلِ قُوَّتِكَ، أَيْنَ أَنْتَ مِنِّي يَوْمَ خَلَقْتُ الْأَرْضَ فَوَضَعْتُهَا عَلَى أَسَاسِهَا، هَلْ كُنْتَ مَعِي تَمُدُّ بِأَطْرَافِهَا؟ وَهَلْ عَلِمْتَ بِأَيِّ مِقْدَارٍ قَدَّرْتُهَا أَمْ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ وَضَعْتُ أَكْنَافَهَا؟ أَبِطَاعَتِكَ حَمَلَ الْمَاءُ الْأَرْضَ أَمْ بِحِكْمَتِكَ كَانَتِ الْأَرْضُ لِلْمَاءِ غِطَاءً؟ أَيْنَ كُنْتَ مِنِّي يَوْمَ رَفَعْتُ السَّمَاءَ سَقْفًا فِي الْهَوَاءِ لَا تُعَلَّقُ بِسَبَبٍ مَنْ فَوْقَهَا وَلَا يُقِلُّهَا دَعْمٌ مِنْ تَحْتِهَا؟ حَتَّى تَبْلُغَ مِنْ حَكْمَتِكَ أَنْ تُجْرِيَ نُورَهَا أَوْ تُسِيِّرَ نُجُومَهَا أَوْ يَخْتَلِفَ بِأَمْرِكَ لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا؟ أَيْنَ أَنْتَ مني يوم نبعث الْأَنْهَارُ وَسُكِّرَتِ الْبِحَارُ، أَسُلْطَانُكَ حَبَسَ أَمْوَاجَ الْبِحَارِ عَلَى حُدُودِهَا؟ أَمْ قُدْرَتُكَ فَتَحَتِ الْأَرْحَامَ حِينَ بَلَغَتْ مُدَّتَهَا؟ أَيْنَ أَنْتَ مِنِّي يَوْمَ صَبَبْتُ الْمَاءَ عَلَى التُّرَابِ وَنَصَبْتُ شَوَامِخَ الْجِبَالِ؟ هَلْ تَدْرِي عَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَرْسَيْتُهَا؟ وَبِأَيِّ مِثْقَالٍ وَزَنْتُهَا؟ أَمْ هَلْ لَكَ مِنْ ذِرَاعٍ تُطِيقُ حَمْلَهَا؟ أَمْ هَلْ تَدْرِي مِنْ أَيْنَ الْمَاءُ الَّذِي أَنْزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ؟ أَمْ هَلْ تَدْرِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَنْشِيْءُ السَّحَابَ؟ أَمْ هَلْ تَدْرِي أَيْنَ خَزَائِنُ الثَّلْجِ؟ أَمْ أَيْنَ جِبَالُ الْبَرَدِ أَمْ أَيْنَ خِزَانَةُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ [وَخِزَانَةُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ] (٣) ؟ وَأَيْنَ خِزَانَةُ الرِّيحِ؟ وَبِأَيِّ لُغَةٍ تَتَكَلَّمُ الْأَشْجَارُ؟ وَمَنْ جَعَلَ الْعُقُولَ فِي أَجْوَافِ الرِّجَالِ؟ وَمَنْ شَقَّ الْأَسْمَاعَ وَالْأَبْصَارَ؟ وَمَنْ ذَلَّتِ الْمَلَائِكَةُ لِمُلْكِهِ وَقَهَرَ الْجَبَّارِينَ بِجَبَرُوتِهِ؟ وَقَسَّمَ الْأَرْزَاقَ بِحِكْمَتِهِ؟ فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ ذَكَرَهَا لِأَيُّوبَ، فَقَالَ أَيُّوبُ: صَغُرَ شَأْنِي وَكُلَّ لِسَانِي وَعَقْلِي وَرَائِي وَضَعُفَتْ قُوَّتِي عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي تَعْرِضُ لِي يَا إِلَهِي، قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ كُلَّ الَّذِي ذَكَرْتَ صُنْعُ يَدَيْكَ وَتَدْبِيرُ حِكْمَتِكَ وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْجَبُ لَوْ شِئْتَ عَمِلْتَ، لَا يُعْجِزُكَ شَيْءٌ وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ خَافِيَةٌ إِذْ لَقِيَنِي الْبَلَاءُ، يَا إِلَهِي فَتَكَلَّمْتُ وَلَمْ أَمْلِكْ لِسَانِي وَكَانَ الْبَلَاءُ هُوَ الَّذِي أَنْطَقَنِي، فَلَيْتَ الْأَرْضَ انْشَقَّتْ لِي فَذَهَبْتُ فِيهَا وَلَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ يُسْخِطُ رَبِّي، وَلَّيْتَنِي مُتُّ بِغَمِّي فِي أَشَدِّ بَلَائِي قَبْلَ ذَلِكَ، إِنَّمَا تَكَلَّمْتُ حِينَ تَكَلَّمْتُ لِتَعْذُرَنِي، وَسَكَتُّ حِينَ سَكَتُّ لِتَرْحَمَنِي، كَلِمَةٌ زَلَّتْ مِنِّي فَلَنْ أَعُودَ، وَقَدْ وَضَعْتُ يَدِي عَلَى فَمِي وَعَضِضْتُ عَلَى لِسَانِي، وَأَلْصَقْتُ بِالتُّرَابِ خَدِّي، أَعُوذُ بِكَ الْيَوْمَ مِنْكَ وَأسْتَجِيرُكَ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ فَأَجِرْنِي، وَأَسْتَغِيثُ بِكَ مِنْ عِقَابِكَ فَأَغِثْنِي، وَأَسْتَعِينُ بِكَ عَلَى أَمْرِي فَأَعِنِّي، وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْكَ فَاكْفِنِي، وَأَعْتَصِمُ بِكَ فَاعْصِمْنِي، وَأَسْتَغْفِرُكَ فَاغْفِرْ لِي، فَلَنْ أَعُودَ لِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ مِنِّي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّوبُ نَفَذَ فِيكَ عِلْمِي وَسَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ، وَرَدَدْتُ عَلَيْكَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ لِتَكَونَ لِمَنْ خَلَقْتُ آيَةً، وَتَكُونَ عِبْرَةً لِأَهْلِ الْبَلَاءِ وَعَزَاءً لِلصَّابِرِينَ، فَارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ فِيهِ شِفَاؤُكَ وَقَرِّبْ عَنْ أَصْحَابِكَ قُرْبَانًا فَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ عَصَوْنِي فِيكَ، فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ فَانْفَجَرَتْ لَهُ عَيْنٌ فَدَخَلَ فِيهَا فَاغْتَسَلَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ مَا كَانَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ تَلْتَمِسُهُ فِي مَضْجَعِهِ فَلَمْ تَجِدْهُ فَقَامَتْ كَالْوَالِهَةِ مُتَرَدِّدَةً (٤) ثُمَّ قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَلْ لَكَ عِلْمٌ بِالرَّجُلِ الْمُبْتَلَى الَّذِي كَانَ هَاهُنَا؟ قَالَ لَهَا: هَلْ تَعْرِفِينَهُ إِذَا رَأَيْتِيهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَمَا لِيَ لَا أَعْرِفُهُ، فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: أَنَا هُوَ فَعَرَفَتْهُ بِضَحِكِهِ فَاعْتَنَقَتْهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَوَالَّذِي نَفْسُ عَبْدِ اللَّهِ بِيَدِهِ مَا فَارَقَتْهُ مِنْ عِنَاقِهِ حَتَّى مَرَّ بِهِمَا كُلُّ مَالٍ لَهُمَا وَوَلَدٌ (٥) .

فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ نِدَائِهِ وَالسَّبَبِ الَّذِي قَالَ لِأَجْلِهِ: إِنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ، وَفِي مُدَّةِ بَلَائِهِ.

رَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ أَنَّ أَيُّوبَ لَبِثَ فِي بَلَائِهِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً (٦) .

وَقَالَ وَهْبٌ: لَبِثَ أَيُّوبُ فِي الْبَلَاءِ ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ يَزِدْ يَوْمًا (٧) .

وَقَالَ كَعْبٌ: كَانَ أَيُّوبُ فِي بَلَائِهِ سَبْعَ سِنِينَ وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: مَكَثَ أَيُّوبُ مَطْرُوحًا عَلَى كُنَاسَةٍ فِي مَزْبَلَةٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ سَبْعَ سِنِينَ وَأَشْهُرًا تَخْتَلِفُ فِيهِ الدَّوَابُّ لَا يَقْرَبُهُ أَحَدٌ غَيْرَ رَحْمَةَ صَبَرَتْ مَعَهُ بِصِدْقٍ وَتَأْتِيهِ بِطَعَامٍ وَتَحْمَدُ اللَّهَ مَعَهُ إِذَا حَمِدَ، وَأَيُّوبُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَفْتُرُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّبْرِ عَلَى ابْتِلَائِهِ (٨) فَصَرَخَ إِبْلِيسُ صَرْخَةً جَمَعَ بِهَا جُنُودَهُ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ قَالُوا: لَهُ حُزْنُكَ؟ قَالَ أَعْيَانِي هَذَا الْعَبْدُ الَّذِي لَمْ أَدَعْ لَهُ مَالًا وَلَا وَلَدًا فَلَمْ يَزِدْ إِلَّا صَبْرًا، ثُمَّ سُلِّطْتُ عَلَى جَسَدِهِ فَتَرَكْتُهُ قُرْحَةً مُلْقَاةً عَلَى كُنَاسَةٍ لَا يَقْرَبُهُ إِلَّا امْرَأَتُهُ، فَاسْتَعَنْتُ بِكُمْ لِتُعِينُونِي عَلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ أَيْنَ مَكْرُكَ الَّذِي أَهْلَكْتَ بِهِ مَنْ مَضَى؟ قَالَ: بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي أَيُّوبَ فَأَشِيرُوا عَلَيَّ قَالُوا نُشِيرُ عَلَيْكَ، مِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ آدَمَ حِينَ أَخْرَجْتَهُ مِنَ الْجَنَّةِ؟ قَالَ مِنْ قِبَلِ امْرَأَتِهِ قَالُوا فَشَأْنُكَ بِأَيُّوبَ مِنْ قِبَلِ امْرَأَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْصِيَهَا وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْرَبُهُ غَيْرُهَا، قَالَ: أَصَبْتُمْ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى امْرَأَتَهُ وَهِيَ تَصَّدَّقَ فَتَمَثَّلَ لَهَا فِي صُورَةِ رَجُلٍ فَقَالَ: أَيْنَ بَعْلُكِ يَا أَمَةَ اللَّهِ؟ قَالَتْ هُوَ ذَاكَ يَحُكُّ قُرُوحَهُ وَتَتَرَدَّدُ الدَّوَابُّ فِي جَسَدِهِ، فَلَمَّا سَمِعَهَا طَمِعَ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةَ جَزَعٍ فَوَسْوَسَ إِلَيْهَا وَذَكَّرَهَا مَا كَانَتْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ وَالْمَالِ، وَذَكَّرَهَا جَمَالَ أَيُّوبَ وَشَبَابَهُ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الضُّرِّ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ أَبَدًا، قَالَ الْحَسَنُ فَصَرَخَتْ فَلَمَّا صَرَخَتْ عَلِمَ أَنْ قَدْ جَزِعَتْ فَأَتَاهَا بِسَخْلَةٍ وَقَالَ لِيَذْبَحْ هَذِهِ لِي أَيُّوبُ وَيَبْرَأْ، فَجَاءَتْ تَصْرُخُ يَا أَيُّوبُ حَتَّى مَتَى يُعَذِّبُكَ رَبُّكَ، أَيْنَ الْمَالُ، أَيْنَ الْوَلَدُ، أَيْنَ الصَّدِيقُ، أَيْنَ لَوْنُكَ الْحَسَنُ، أَيْنَ جِسْمُكَ [الْحَسَنُ] (٩) اذْبَحْ هَذِهِ السَّخْلَةَ وَاسْتَرِحْ، قَالَ أَيُّوبُ أَتَاكِ عَدُوُّ اللَّهِ فَنَفَخَ فِيكِ وَيْلَكِ أَرَأَيْتِ ما تبكين ٢٠/ب عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالصِّحَّةِ مَنْ أَعْطَانِيهِ؟ قَالَتِ اللَّهُ، قَالَ فَكَمْ مُتِّعْنَا بِهِ؟ قَالَتْ ثَمَانِينَ سَنَةً، قَالَ فَمُنْذُ كَمِ ابْتَلَانَا؟ قَالَتْ مُنْذُ سَبْعِ سِنِينَ وَأَشْهُرٍ، قَالَ وَيْلَكِ


(١) في "ب" يعتزل.
(٢) أخرجه الطبري: ١٧ / ٦٥ -٦٨ دون أن يعلق بشيء على ما في الرواية من الإسرائيليات كما قال صاحب أضواء البيان: ٤ / ٦٨١، ومنها ما ذكره جماعة من المفسرين: أن الله سلط الشيطان على ماله وأهله ابتلاء لأيوب، فأهلك الشيطان ماله وولده، ثم سلطه على بدنه ابتلاء له فنفخ في جسده نفخة اشتعل منها، فصار في جسده ثآليل، فحكمها بأظافره حتى دميت، ثم بالفخار حتى تساقط لحمه، وعصم الله قلبه ولسانه (وغالب ذلك من الإسرائيليات) انتهى. وقال الدكتور محمد أبو شهبة في كتابه (الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير ص ٣٩١ - ٣٩٢) بعد أن ساق عدة روايات في ابتلاء أيوب عليه السلام: والمحققون من العلماء على أن نسبة هذا إلى المعصوم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إما من عمل بعض الوضاعين الذين يركبون الأسانيد للمتون، أو من غلط بعض الرواة، وأن ذلك من إسرائيليات بني إسرائيل وافترائهم على الأنبياء. . . ثم قال: وقد دلك كتاب الله الصادق، على لسان نبيه محمد الصادق على أن الله - تبارك وتعالى - ابتلى نبيه: أيوب - عليه السلام - في جسده، وأهله، وماله وأنه صبر حتى صار مضرب الأمثال في ذلك. . . والذي يجب أن نعتقده أنه ابتلى، ولكن بلاءه لم يصل إلى حد هذه الأكاذيب، من أنه أصيب بالجذام وأن جسمه أصبح قرحة، وأنه ألقي على كناسة بني إسرائيل، يرعى في جسده الدود، وتعبث به دواب بني إسرائيل، أو أنه أصيب بمرض الجدري، وأيوب - عليه صلوات الله وسلامه - أكرم على الله من أن يقلى على مزبلة، وأن يصاب بمرض ينفر الناس من دعوته، ويقززهم منه، وأي فائدة تحصل من الرسالة وهو على هذه الحال المزرية التي لا يرضاها الله لأنبيائه ورسله.
(٣) زيادة من "ب".
(٤) متلددة: متلفتة يمينا وشمالا.
(٥) أخرجه الطبري: ١٧ / ٦٨ - ٦٩.
(٦) أخرجه الحاكم: ٢ / ٥٨١ إلا أنه ذكر مدة البلاء خمس عشرة سنة، وابن حبان في موارد الظمآن ص ٥١١، وعزاه السيوطي: ٥ / ٦٥٩ لابن أبي الدنيا وأبي يعلي وابن جرير وابن أبي حاتم، وذكره ابن كثير ٣ / ١٨٩ من رواية ابن أبي حاتم عن أنس ابن مالك وقال: رفع هذا الحديث غريب جدا.
(٧) أخرجه الطبري: ١٧ / ٦٦.
(٨) أخرجه الطبري: ١٧ / ٦٩.
(٩) في "ب" الصحيح.

<<  <  ج: ص:  >  >>