للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مَقَتَهُمُ اللَّهُ عَلَى فِرَارِهِمْ مِنَ الْمَوْتِ فَأَمَاتَهُمْ عُقُوبَةً لَهُمْ ثُمَّ بُعِثُوا لِيَسْتَوْفُوا مُدَّةَ آجَالِهِمْ [وَلَوْ جَاءَتْ آجَالُهُمْ] (١) مَا بُعِثُوا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ} أَيْ أَلَمْ تَعْلَمْ بِإِعْلَامِي إِيَّاكَ، وَهُوَ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ.

قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: هُوَ تَعْجِيبٌ يَقُولُ هَلْ رَأَيْتَ مِثْلَهُمْ؟ كَمَا تَقُولُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى مَا يَصْنَعُ فُلَانٌ؟ وَكُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ أَلَمْ تَرَ وَلَمْ يُعَايِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا وَجْهُهُ {إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} جَمْعُ أَلْفٍ وَقِيلَ مُؤْتَلِفَةٌ قُلُوبُهُمْ جَمْعُ آلِفٍ مِثْلُ قَاعِدٍ وَقَعُودٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْعَدَدُ {حَذَرَ الْمَوْتِ} أَيْ خَوْفَ الْمَوْتِ {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} أَمْرُ تَحْوِيلٍ كَقَوْلِهِ "كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ" (٦٥-الْبَقَرَةِ) {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} بَعْدَ مَوْتِهِمْ {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} قِيلَ هُوَ عَلَى الْعُمُومِ فِي حَقِّ الْكَافَّةِ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ عَلَى الْخُصُوصِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} أَمَّا الْكُفَّارُ فَلَمْ يَشْكُرُوا وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَلَمْ يَبْلُغُوا غَايَةَ الشُّكْرِ.

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ أَعْدَاءَ اللَّهِ {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: هَذَا خِطَابٌ لِلَّذِينِ أُحْيَوْا أُمِرُوا بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فِرَارًا مِنَ الْجِهَادِ فَأَمَاتَهُمُ اللَّهُ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُجَاهِدُوا: وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، أَمَرَهُمْ بِالْجِهَادِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} الْقَرْضُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُعْطِيهِ الْإِنْسَانُ لِيُجَازَى عَلَيْهِ، فَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى عَمَلَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ عَلَى رَجَاءِ مَا وَعَدَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ قَرْضًا، لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَهُ لِطَلَبِ ثَوَابِهِ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْقَرْضُ مَا أَسْلَفْتَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ أَوْ سَيِّئٍ، وَأَصْلُ الْقَرْضِ فِي اللُّغَةِ الْقَطْعُ، سُمِّيَ بِهِ الْقَرْضُ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا يُعْطِيهِ لِيَرْجِعَ إِلَيْهِ مِثْلُهُ، وَقِيلَ فِي الْآيَةِ اخْتِصَارٌ مَجَازُهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ عِبَادَ اللَّهِ وَالْمُحْتَاجِينَ مِنْ خَلْقِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" (٥٧-الْأَحْزَابِ) أَيْ يُؤْذُونَ عِبَادَ اللَّهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يوم القيامة يا ابن آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي" (٢) .

قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُقْرِضُ اللَّهَ} أَيْ يُنْفِقُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ {قَرْضًا حَسَنًا} قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَاقِدِيُّ: يَعْنِي مُحْتَسِبًا، طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مِنْ مَالٍ حَلَالٍ وَقِيلَ لَا يَمُنُّ بِهِ وَلَا يُؤْذِي {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ " فَيُضَعِّفَهُ " وَبَابُهُ بِالتَّشْدِيدِ، وَوَافَقَ أَبُو عَمْرٍو فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "فَيُضَاعِفَهُ " بِالْأَلْفِ مُخَفَّفًا وَهُمَا لُغَتَانِ، وَدَلِيلُ التَّشْدِيدِ قَوْلُهُ


(١) ساقط من "أ".
(٢) رواه مسلم: في البر - باب: فضل عيادة المريض برقم (٢٥٦٩) ٤ / ١٩٩٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>