للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَفِيهِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ يَقُولُونَ لَا نُفَرِّقُ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ لَا يُفَرِّقُ بِالْيَاءِ فَيَكُونُ خَبَرًا عَنِ الرَّسُولِ، أَوْ مَعْنَاهُ لَا يُفَرِّقُ الْكُلُّ وَإِنَّمَا قَالَ "بَيْنَ أَحَدٍ" وَلَمْ يَقُلْ بَيْنَ آحَادٍ لِأَنَّ الْأَحَدَ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ" (٤٧-الْحَاقَّةِ) {وَقَالُوا سَمِعْنَا} قَوْلَكَ {وَأَطَعْنَا} أَمْرَكَ.

رُوِيَ عَنْ حَكِيمٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ فَسَلْ تُعْطَهُ، فَسَأَلَ بِتَلْقِينِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ {غُفْرَانَكَ} (١) وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيِ اغْفِرْ غُفْرَانَكَ، أَوْ نَسْأَلُكَ غُفْرَانَكَ {رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ظَاهِرُ الْآيَةِ قَضَاءُ الْحَاجَةِ، وَفِيهَا إِضْمَارُ السُّؤَالِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَقَالُوا لَا تُكَلِّفُنَا إِلَّا وُسْعَنَا، وَأَجَابَ أَيْ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أَيْ طَاقَتَهَا، وَالْوُسْعُ: اسْمٌ لِمَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ وَلَا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ فَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَطَاءٌ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ حَدِيثَ النَّفْسِ الَّذِي ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} كَمَا ذَكَرْنَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ خَاصَّةً، وَسَّعَ عَلَيْهِمْ أَمْرَ دِينِهِمْ وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ فِيهِ إِلَّا مَا يَسْتَطِيعُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" (١٨٥-الْبَقَرَةِ) وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" (٧٨-الْحَجِّ) وَسُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} قَالَ: إِلَّا يُسْرَهَا وَلَمْ يُكَلِّفْهَا فَوْقَ طَاقَتِهَا، وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ لِأَنَّ الْوُسْعَ مَا دُونُ الطَّاقَةِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} أَيْ لِلنَّفْسِ مَا عَمِلَتْ مِنَ الْخَيْرِ، لَهَا أَجْرُهُ وَثَوَابُهُ {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} مِنَ الشَّرِّ وَعَلَيْهَا وِزْرُهُ {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} أَيْ لَا تُعَاقِبْنَا {إِنْ نَسِينَا} جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ النِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ السَّهْوُ، قَالَ الْكَلْبِيُّ كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا نَسُوا شَيْئًا مِمَّا أُمِرُوا به أو أخطأوا عُجِّلَتْ لَهُمُ الْعُقُوبَةُ، فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ مِنْ مَطْعَمٍ أَوْ مَشْرَبٍ عَلَى حَسْبِ ذَلِكَ الذَّنْبِ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْأَلُوهُ تَرْكَ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِذَلِكَ، وَقِيلَ هُوَ مِنَ النِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ التَّرْكُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ" (٦٧-التَّوْبَةِ) .

قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ أَخْطَأْنَا} قِيلَ مَعْنَاهُ الْقَصْدُ وَالْعَمْدُ يُقَالُ: أَخْطَأَ فُلَانٌ إِذَا تَعَمَّدَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطأ كَبِيرًا" (٣١-الْإِسْرَاءِ) قَالَ عَطَاءٌ: إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا يَعْنِي: إِنْ جَهِلْنَا أَوْ تَعَمَّدْنَا، وَجَعَلَهُ الْأَكْثَرُونَ مِنَ الْخَطَإِ الَّذِي هُوَ الْجَهْلُ وَالسَّهْوُ، لِأَنَّ مَا كَانَ عَمْدًا مِنَ الذَّنْبِ فَغَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهُ بَلْ هُوَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَالْخَطَأُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا


(١) أخرج الطبري وسعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن حكيم بن جابر قال: لما نزلت آمن الرسول، قال جبريل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله عز وجل قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه، فسأل: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) حتى ختم السورة بمسألة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انظر تفسير الطبري: ٦ / ١٢٩ والدر المنثور: ٢ / ١٣٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>