للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرِّيَاءِ فِي الْعِبَادَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّشْرِيكِ فِيهَا، اعْلَمْ أَنَّ الرِّيَاءَ شِرْكٌ وَتَشْرِيكٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي طَاعَتِهِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْمَعْصِيَةِ وَالْإِثْمِ وَالْبُطْلَانِ فِي تِلْكَ الْعِبَادَاتِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُحَاسِبِيُّ وَغَيْرُهُ وَيُعَضِّدُهُ مَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ خَرَّجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَقُولُ: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ لَهُ أَوْ تَرَكْتُهُ لِشَرِيكِي» فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: ٥] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُخْلِصِ لِلَّهِ - تَعَالَى - غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ وَمَا هُوَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَسِرُّهَا وَضَابِطُهَا أَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ الْمُتَقَرَّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَيَقْصِدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَنْ يُعَظِّمَهُ النَّاسُ أَوْ بَعْضُهُمْ فَيَصِلُ إلَيْهِ نَفْعُهُمْ أَوْ يَنْدَفِعَ بِهِ ضَرَرُهُمْ فَهَذَا هُوَ قَاعِدَةُ أَحَدِ مُسَمِّي الرِّيَاءِ، وَالْقِسْمُ الْآخَرُ أَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ لَا يُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ أَلْبَتَّةَ بَلْ النَّاسَ فَقَطْ وَيُسَمَّى هَذَا الْقِسْمُ رِيَاءَ الْإِخْلَاصِ وَالْأَوَّلُ رِيَاءَ الشِّرْكِ وَأَغْرَاضُ الرِّيَاءِ ثَلَاثَةٌ التَّعْظِيمُ وَجَلْبُ الْمَصَالِحِ وَدَفْعُ الْمَضَارِّ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأَخِيرَانِ يَتَفَرَّعَانِ عَلَى الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ إذَا عُظِّمَ انْجَلَبَتْ إلَيْهِ الْمَصَالِحُ وَانْدَفَعَتْ عَنْهُ الْمَفَاسِدُ فَهُوَ الْغَرَضُ الْكُلِّيُّ فِي الْحَقِيقَةِ.

وَأَمَّا مُطْلَقُ التَّشْرِيكِ كَمَنْ يُجَاهِدُ لِتَحْصِيلِ طَاعَةِ اللَّهِ بِالْجِهَادِ وَلِيَحْصُلَ لَهُ الْمَالُ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَهَذَا لَا يَضُرُّهُ وَلَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُ هَذَا فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ فَفَرْقٌ بَيْنَ جِهَادِهِ لِيَقُولَ النَّاسُ هَذَا شُجَاعٌ أَوْ لِيُعَظِّمَهُ الْإِمَامُ فَيُكْثِرَ عَطَاءَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ هَذَا وَنَحْوُهُ رِيَاءٌ حَرَامٌ وَبَيْنَ أَنْ يُجَاهِدَ لِتَحْصِيلِ السَّبَايَا وَالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ مِنْ جِهَةِ أَمْوَالِ الْعَدُوِّ.

مَعَ أَنَّهُ قَدْ شَرَّكَ وَلَا يُقَالُ لِهَذَا رِيَاءٌ بِسَبَبِ أَنَّ الرِّيَاءَ أَنْ يَعْمَلَ لِيَرَاهُ غَيْرُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ وَالرُّؤْيَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ الْخَلْقِ فَمَنْ لَا يَرَى وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُقَالُ فِي الْعَمَلِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ رِيَاءٌ وَالْمَالُ الْمَأْخُوذُ فِي الْغَنِيمَةِ وَنَحْوُهُ لَا يُقَالُ أَنَّهُ يَرَى وَيُبْصِرُ فَلَا يَصْدُقُ عَلَى هَذِهِ الْأَغْرَاضِ لَفْظُ الرِّيَاءِ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ فِيهَا وَكَذَلِكَ مَنْ حَجَّ وَشَرَّكَ فِي حِجِّهِ غَرَضَ الْمَتْجَرِ وَيَكُونُ جُلُّ مَقْصُودِهِ أَوْ كُلُّهُ السَّفَرُ لِلتِّجَارَةِ خَاصَّةً وَيَكُونُ الْحَجُّ إمَّا مَقْصُودًا مَعَ ذَلِكَ أَوْ غَيْرَ مَقْصُودٍ وَيَقَعُ تَابِعًا اتِّفَاقًا فَهَذَا أَيْضًا لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْحَجِّ وَلَا يُوجِبُ إثْمًا وَلَا مَعْصِيَةً وَكَذَلِكَ مَنْ صَامَ لِيَصِحَّ جَسَدُهُ أَوْ لِيَحْصُلَ لَهُ زَوَالُ مَرَضٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ الَّتِي يُنَافِيهَا الصَّوْمُ وَيَكُونُ التَّدَاوِي هُوَ مَقْصُودُهُ أَوْ بَعْضُ مَقْصُودِهِ وَالصَّوْمُ مَقْصُودٌ مَعَ ذَلِكَ.

وَأَوْقَعَ الصَّوْمَ مَعَ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ لَا يَقْدَحُ فِي صَوْمِهِ بَلْ أَمَرَ بِهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ فِي قَوْلِهِ «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» أَيْ قَاطِعٌ فَأَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصَّوْمِ لِهَذَا الْغَرَضِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَادِحًا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعِبَادَةِ إلَّا مَعَهَا وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُجَدِّدَ وُضُوءَهُ لِيَحْصُلَ لَهُ التَّبَرُّدُ أَوْ التَّنَظُّفُ وَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ لَا يَدْخُلُ فِيهَا تَعْظِيمُ الْخَلْقِ بَلْ هِيَ لَتَشْرِيكِ أُمُورٍ مِنْ الْمَصَالِحِ لَيْسَ لَهَا إدْرَاكٌ وَلَا تَصْلُحُ لِلْإِدْرَاكِ وَلَا لِلتَّعْظِيمِ وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي الْعِبَادَاتِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرِّيَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّشْرِيكِ فِيهَا غَرَضٌ آخَرُ غَيْرُ الْخَلْقِ مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ تَشْرِيكٌ، نَعَمْ لَا يَمْنَعُ أَنَّ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ الْمُخَالِطَةِ لِلْعِبَادَةِ قَدْ تُنْقِصُ الْأَجْرَ وَأَنَّ الْعِبَادَةَ إذَا تَجَرَّدَتْ عَنْهَا زَادَ الْأَجْرُ وَعَظُمَ الثَّوَابُ أَمَّا الْإِثْمُ وَالْبُطْلَانُ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَمِنْ جِهَتِهِ حَصَلَ الْفَرْقُ لَا مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ وَقِلَّتِهِ انْتَهَى.

وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ التَّشْرِيكَ بِجَمِيعِ وُجُوهِهِ لَا يَحْرُمُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِخْلَاصَ فَرْضٌ وَمَنْ كَانَ الْبَاعِثُ الْأَقْوَى عَلَيْهِ بَاعِثَ النَّفْسِ لَمْ يُخْلِصْ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَيْضًا أَنَّ مُطْلَقَ الرِّيَاءِ وَلَوْ قَلَّ يُحْبِطُ الْعَمَلَ وَيَصِيرُ لَا ثَوَابَ لَهُ أَصْلًا وَفِيهِ نَظَرٌ وَانْظُرْ أَوَّلَ كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ الْبَيَانِ وَقَدْ حَرَّرَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ

<<  <  ج: ص:  >  >>