للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ كَثْرَةُ الْكَلَامِ تَمُجُّ الْعَالِمَ وَتُذِلُّهُ وَتُنْقِصُهُ، وَمَنْ عَمِلَ هَذَا ذَهَبَ بَهَاؤُهُ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ إلَّا فِي النِّسَاءِ وَالصِّغَارِ، وَكَانَ يُقَالُ: نِعْمَ الرَّجُلُ فُلَانٌ لَوْلَا أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ كَلَامَ شَهْرٍ فِي يَوْمٍ، وَقَالَ طَلَبُ الرِّزْقِ فِي شُبْهَةٍ خَيْرٌ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى النَّاسِ وَقَالَ أَهْوَالُ الدُّنْيَا ثَلَاثَةٌ: رُكُوبُ الْبَحْرِ وَرُكُوبُ فَرَسٍ عَرِيٍّ وَتَزْوِيجُ حُرَّةٍ.

وَقَالَ: مِنْ إزَالَةِ الْعِلْمِ أَنْ تُجِيبَ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُك وَلَا تَكُنْ إمَامًا بِكُلِّ مَا تَسْمَعُ، وَمَنْ إزَالَةِ الْعِلْمِ أَنْ تَنْطِقَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تُسْأَلَ عَنْهُ.

(وَتَآلِيفُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَثِيرَةٌ) مِنْهَا كِتَابُ الْمُوَطَّإِ الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ إلَى مِثْلِهِ قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: مَا كِتَابٌ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ أَنْفَعُ لِلنَّاسِ مِنْ الْمُوَطَّإِ وَلَا أَصَحُّ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا فِي الْأَرْضِ كِتَابٌ فِي الْعِلْمِ أَكْثَرُ صَوَابًا مِنْ كِتَابِ مَالِكٍ وَمَا عَلَى الْأَرْضِ أَصَحُّ مِنْهُ وَفِي رِوَايَةٍ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَا أَحْسَنَهُ لِمَنْ تَدَيَّنَ بِهِ وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مَدْحَهُ نَثْرًا وَنَظْمًا وَاعْتَنَى الْعُلَمَاءُ بِهِ شَرْحًا وَكَلَامًا عَلَى الرِّجَالِ وَالْأَسَانِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَمِنْ تَآلِيفِهِ رِسَالَتُهُ إلَى ابْنِ وَهْبٍ فِي الْقَدَرِ وَالرَّدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هِيَ مِنْ أَجَلِّ الْكُتُبِ فِي هَذَا الْبَابِ وَتَدُلُّ عَلَى سَعَةِ عِلْمِهِ بِهَذَا الشَّأْنِ، وَمِنْهَا كِتَابُهُ فِي النُّجُومِ حِسَابُ دَوَرَانِ الزَّمَانِ وَمَنَازِلِ الْقَمَرِ وَهُوَ كِتَابٌ حَسَنٌ مُفِيدٌ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ وَجَعَلُوهُ أَصْلًا، وَمِنْهَا رِسَالَتُهُ فِي الْأَقْضِيَةِ كَتَبَ بِهَا إلَى بَعْضِ الْقُضَاةِ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ وَرِسَالَتُهُ إلَى ابْنِ غَسَّانَ فِي الْفَتْوَى وَهِيَ مَشْهُورَةٌ وَرِسَالَتُهُ إلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ فِي الْأَدَبِ وَالْمَوَاعِظِ، وَمِنْهَا كِتَابُهُ فِي التَّفْسِيرِ لِغَرِيبِ الْقُرْآنِ، وَمِنْهَا رِسَالَتُهُ إلَى اللَّيْثِ فِي إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَنُسِبَ لَهُ كِتَابُ السِّرِّ وَأُنْكِرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَنَاقِبُهُ وَفَضَائِلُهُ وَأَحْوَالُهُ كَثِيرَةٌ وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْهَا قَلَّ مِنْ كَثُرَ وَإِنَّمَا أَرَدْنَا التَّنْبِيهَ عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ.

[فَرْعٌ التَّقْلِيدُ]

(فَرْعٌ) التَّقْلِيدُ هُوَ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ أَنْ يُقَلِّدَ أَحَدَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا أَوْ لَيْسَ بِعَالَمٍ وَقِيلَ: لَا يُقَلِّدُ الْعَالِمُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا؛ لِأَنَّ لَهُ صَلَاحِيَةَ أَخْذِ الْحُكْمِ مِنْ الدَّلِيلِ.

(فَرْعٌ) قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي شَرْحِ الْمَحْصُولِ: قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَجْمَعَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ الْعَوَامَّ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَتَعَلَّقُوا بِمَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوا مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ سَبَرُوا وَنَظَرُوا وَبَوَّبُوا؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَمْ يَعْتَنُوا بِتَهْذِيبِ الْمَسَائِلِ وَالِاجْتِهَادِ وَإِيضَاحِ طُرُقِ النَّظَرِ بِخِلَافِ مَنْ بَعْدَهُمْ ثُمَّ قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَرَأَيْت لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ الصَّلَاحِ مَا مَعْنَاهُ أَنَّ التَّقْلِيدَ يَتَعَيَّنُ لِهَذِهِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ مَذَاهِبَهُمْ انْتَشَرَتْ وَانْبَسَطَتْ حَتَّى ظَهَرَ فِيهَا تَقْيِيدُ مُطْلَقِهَا وَتَخْصِيصُ عَامِّهَا وَشُرُوطُ فُرُوعِهَا فَإِذَا أَطْلَقُوا حُكْمًا فِي مَوْضِعٍ وُجِدَ مُكَمَّلًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَتُنْقَلُ عَنْهُ الْفَتَاوَى مُجَرَّدَةً فَلَعَلَّ لَهَا مُكَمِّلًا أَوْ مُقَيِّدًا أَوْ مُخَصِّصًا لَوْ انْضَبَطَ كَلَامُ قَائِلِهِ لَظَهَرَ فَيَصِيرُ فِي تَقْلِيدِهِ عَلَى غَيْرِ ثِقَةٍ بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ قَالَ: وَهَذَا تَوْجِيهٌ حَسَنٌ فِيهِ مَا لَيْسَ فِي كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ.

ثُمَّ أُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ عَدَمُ جَوَازِ نَقْلِ مَذَاهِبِهِمْ لِعَدَمِ انْضِبَاطِهَا فَلَعَلَّ مَا نَنْقُلُهُ عَنْهُمْ لَوْ جُمِعَتْ شُرُوطُهُ صَارَ مُوَافِقًا لِمَا نَجْعَلُهُ مُخَالِفًا لَهُ قَالَ: وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ أَمْرَ النَّقْلِ خَفِيفٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَمَلِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاطِّلَاعُ عَلَى وُجُوهِ الْفِقْهِ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى الْمَدَارِكِ وَعَدَمِ الْوِفَاقِ فَيُوجِبُ ذَلِكَ التَّوَقُّفَ عَنْ أُمُورٍ وَالْبَحْثَ عَنْ أُمُورٍ.

وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ يَتَخَرَّجُ عَلَى جَوَازِ الِانْتِقَالِ فِي الْمَذَاهِبِ فَمَنْ مَنَعَهُ لِأَنَّ مَذَاهِبَ الصَّحَابَةِ لَمْ تَكْثُرْ فُرُوعُهَا حَتَّى يُمْكِنَ لِمُقَلِّدٍ الِاكْتِفَاءُ بِهِ طُولَ عُمْرِهِ انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ. وَأَكْثَرُهُ بِاللَّفْظِ وَذَكَرَ الْبُرْزُلِيُّ أَنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ سَأَلَ الْغَزَالِيَّ عَمَّنْ قَلَّدَ الشَّافِعِيَّ مَثَلًا وَكَانَ مَذْهَبُهُ مُخَالِفًا لِأَحَدِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ فَهَلْ لَهُ اتِّبَاعُ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُمْ أَبْعَدَ عَنْ الْخَطَأِ وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

<<  <  ج: ص:  >  >>