التَّطَوُّعِ لِمَنْ قَدْ حَجَّ الْفَرِيضَةَ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةَ» وَلِأَنَّ الْجِهَادَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَجْرٌ عَظِيمٌ إذَا لَمْ يَكُنْ خَوْفٌ قَدْ لَا يَفِي أَجْرُهُ فِيهِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ السَّيِّئَاتِ عِنْدَ الْمُوَازَنَةِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْجَنَّةَ كَالْحَجِّ وَأَمَّا الْغَزْوُ مَعَ الْخَوْفِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ التَّطَوُّعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ الْغَازِيَ مَعَ الْخَوْفِ قَدْ بَاعَ نَفْسَهُ مِنْ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَاسْتَوْجَبَ بِهِ الْجَنَّةَ وَالْبُشْرَى مِنْ اللَّهِ بِالْفَوْزِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: ١١١] الْآيَةُ وَإِنَّمَا قَالَ: إنَّ الْحَجَّ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ الصَّدَقَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ سَنَةَ مَجَاعَةٍ لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ سَنَةَ مَجَاعَةٍ كَانَتْ الْمُوَاسَاةُ عَلَيْهِ بِالصَّدَقَةِ وَاجِبَةً فَإِذَا لَمْ يُوَاسِ الرَّجُلُ فِي سَنَةِ مَجَاعَةٍ مِنْ مَالِهِ بِالْقَدْرِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ بِالْمُوَاسَاةِ فِي الْجُمْلَةِ فَقَدْ أَثِمَ وَقَدْرُ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ حَقِيقَةً فَالتَّوَقِّي مِنْ الْإِثْمِ بِالْإِكْثَارِ مِنْ الصَّدَقَةِ أَوْلَى مِنْ التَّطَوُّعِ بِالْحَجِّ الَّذِي لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ وَإِنَّمَا قَالَ: إنَّ الصَّدَقَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْعِتْقِ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ «أَنَّ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً لَهَا وَلَمْ تَسْتَأْذِنْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ قَالَتْ: أَشْعَرْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي، قَالَ: أَوَفَعَلْت، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتهَا أَخْوَالَكَ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ» وَهَذَا نَصٌّ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ بِرَفْعِ مُؤْنَةِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ بِالظَّوَاهِرِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ انْتَهَى.
وَلِلْمَسْأَلَةِ أَرْبَعُ صُوَرٍ: حَجُّ التَّطَوُّعِ مَعَ الْغَزْوِ التَّطَوُّعِ فِي غَيْرِ سَنَةِ الْخَوْفِ، وَحَجُّ الْفَرْضِ مَعَ الْغَزْوِ وَالتَّطَوُّعُ فِي غَيْرِ سَنَةِ الْخَوْفِ أَيْضًا وَحَجُّ الْفَرْضِ مَعَ الْغَزْوِ وَالتَّطَوُّعُ فِي غَيْرِ سَنَةِ الْخَوْفِ وَحَجُّ التَّطَوُّعِ مَعَ الْغَزْوِ وَفِي سَنَةِ الْخَوْفِ أَيْضًا. وَفُهِمَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ حُكْمُ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ ثِنْتَانِ بِالْمَنْطُوقِ وَوَاحِدَةٌ بِالْأَحْرَوِيَّةِ.
أَمَّا الْأُولَى فَقَدْ صَرَّحَ بِحُكْمِهَا وَأَنَّ التَّطَوُّعَ بِالْحَجِّ أَفْضَلُ مِنْ التَّطَوُّعِ بِالْغَزْوِ وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ تَطَوُّعُ الْجِهَادِ أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ الْحَجِّ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ ابْنُ سَحْنُونٍ وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ تَطَوُّعُ الْجِهَادِ أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ الْحَجِّ انْتَهَى، وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَفْتَى ابْنُ رُشْدٍ فِي نَوَازِلِهِ كَمَا سَيَأْتِي وَيُؤْخَذُ حُكْمُ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ بِالْأَحْرَوِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَهُوَ تَقْدِيمُ الْحَجِّ عَلَى الْجِهَادِ نَدْبًا عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّرَاخِي وَوُجُوبًا عَلَى الْقَوْلِ بِالْفَوْرِ وَعَلَى مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ أَعْنِي رِوَايَةَ ابْنِ وَهْبٍ الْمُتَقَدِّمَةَ تُجْرَى عَلَى الْخِلَافِ فِي الْحَجِّ هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ فَيُقَدَّمُ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي فَيَكُونُ تَقْدِيمُهُ كَالنَّقْلِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ نَدْبًا فِي غَيْرِ حَقِّ حُمَاةِ الدِّينِ وَالْقَائِمِينَ بِهِ وَوُجُوبًا فِي حَقِّهِمْ لِأَنَّ الْجِهَادَ صَارَ فَرْضًا عَلَيْهِمْ بِتَعَيُّنِهِمْ لَهُ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيمِ الْحَجِّ إلَّا مَنْ بَلَغَ الْمُعْتَرَكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْحَجُّ لِأَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ عَيْنٍ بِالْأَصَالَةِ وَالْجِهَادُ إنَّمَا صَارَ فَرْضًا عَلَيْهِمْ بِتَعَيُّنِهِمْ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي كَلَامُ ابْنِ رُشْدٍ.
وَحُكْمُ الثَّالِثَةِ تَقْدِيمُ الْجِهَادِ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا الرَّابِعَةُ فَإِنْ قُلْت: الْحَجُّ عَلَى التَّرَاخِي فَيُقَدَّمُ الْجِهَادُ وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ نُظِرَ إلَى كَثْرَةِ الْخَوْفِ الْمُتَوَقَّعِ وَقِلَّتِهِ، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِيهَا وَلَمْ أَرَ فِيهَا نَصًّا إلَّا أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ: وَأَمَّا الْغَزْوُ مَعَ الْخَوْفِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ وَإِنَّ الْفَرْضَ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِ فِي الْأَجْوِبَةِ إجْرَاؤُهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي فَوْرِيَّةِ الْحَجِّ وَتَرَاخِيهِ فَعَلَى الْفَوْرِ يُقَدَّمُ الْحَجُّ وَعَلَى التَّرَاخِي يُؤَخَّرُ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَذْكُرْ الْخَوْفَ لَكِنَّهُ مَعْلُومٌ لِأَنَّ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ كَانَتْ إذْ ذَاكَ فِيهَا الْخَوْفُ وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا إذَا لَمْ يَجِبْ الْجِهَادُ عَلَى الْأَعْيَانِ بِأَنْ يَفْجَأَ الْعَدُوُّ مَدِينَةَ قَوْمٍ فَإِنْ وَجَبَ فَلَا شَكَّ فِي تَقْدِيمِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ فِي الْأَجْوِبَةِ وَنَصُّهُ: جَوَابُك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ - فِيمَنْ لَمْ يَحُجَّ مِنْ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ فِي وَقْتِنَا هَذَا هَلْ الْحَجُّ أَفْضَلُ لَهُ أَمْ الْجِهَادُ؟ وَكَيْفَ إنْ كَانَ قَدْ حَجَّ الْفَرِيضَةَ فَأَجَابَ فَرْضُ الْحَجِّ سَاقِطٌ عَنْ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ فِي وَقْتِنَا هَذَا لِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ شَرْطًا فِي الْوُجُوبِ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْوُصُولِ مَعَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute