وَالْأَرْكَانِ، فَالشُّكْرُ بِاللِّسَانِ أَنْ يُثْنِيَ عَلَى الْمُنْعِمِ وَالشُّكْرُ بِالْقَلْبِ أَنْ يَعْتَقِدَ اتِّصَافَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَنَّهُ وَلَيُّ النِّعْمَةِ وَالشُّكْرُ بِالْجَوَارِحِ أَنْ يُجْهِدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَتِهِ فَمُتَعَلِّقُ الشُّكْرِ خَاصٌّ وَمَوْرِدُهُ عَامٌّ فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَمْدِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ.
وَالْحَمْدُ عُرْفًا هُوَ الشُّكْرُ لُغَةً لَكِنْ بِحَذْفِ قَوْلِنَا: عَلَى الشَّاكِرِ، وَالشُّكْرُ عُرْفًا صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَغَيْرِهِمَا لِمَا خُلِقَ لَهُ فَالنِّسْبَةُ بَيْنَ الْحَمْدَيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ وَبَيْنَ الشُّكْرَيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ وَكَذَا بَيْنَ الشُّكْرِ الْعُرْفِيِّ وَالْحَمْدِ اللُّغَوِيِّ وَبَيْنَ الْحَمْدِ الْعُرْفِيِّ وَالشُّكْرِ اللُّغَوِيِّ إنْ قُيِّدَتْ النِّعْمَةُ فِي الْحَمْدِ اللُّغَوِيِّ بِوُصُولِهَا إلَى الشَّاكِرِ كَمَا مَرَّ وَإِذَا لَمْ تُقَيَّدْ كَانَا مُتَّحِدَيْنِ وَأَلْ فِي الْحَمْدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَقِيلَ: لِلْجِنْسِ وَحُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُرْسِي نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِ أَنَّهُ قَالَ: قُلْت لِابْنِ النَّحَّاسِ النَّحْوِيِّ: مَا تَقُولُ فِي الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي " الْحَمْدُ لِلَّهِ " أَجِنْسِيَّةٌ هِيَ أَمْ عَهْدِيَّةٌ؟ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي قَالُوا: إنَّهَا جِنْسِيَّةٌ. فَقُلْت لَهُ: الَّذِي أَقُولُ: إنَّهَا عَهْدِيَّةٌ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا عَلِمَ عَجْزَ خَلْقِهِ عَنْ كُنْهِ حَمْدِهِ حَمِدَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ فِي الْأَزَلِ نِيَابَةً عَنْ خَلْقِهِ قَبْلَ أَنْ يَحْمَدُوهُ ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحْمَدُوهُ بِذَلِكَ الْحَمْدِ، فَقَالَ: يَا سَيِّدِي أُشْهِدُك أَنَّهَا عَهْدِيَّةٌ وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا مُفْتَتَحُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَلِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ وَالثُّبُوتِ فَهِيَ الَّتِي تُنَاسِبُ قَوْلَهُ مَا تَزَايَدَ مِنْ النِّعَمِ.
فَإِنْ قِيلَ: حَمْدُ الْعِبَادِ حَادِثٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدِيمٌ وَلَا يَجُوزُ قِيَامُ الْحَادِثِ بِالْقَدِيمِ فَمَا مَعْنَى حَمْدِ الْعِبَادِ لَهُ تَعَالَى؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ تَعَلُّقُ الْحَمْدِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّعَلُّقِ الْقِيَامُ كَتَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومِ وَقَوْلُهُ: حَمْدًا مَصْدَرٌ نَوْعِيٌّ وَمَعْنَى يُوَافِي يُلَاقِي أَيْ كُلَّمَا زَادَتْ نِعْمَةٌ لَاقَاهَا حَمْدٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْمَزِيدِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: مَعْنَاهُ يَفِي بِهَا وَيَقُومُ بِحَقِّهَا وَفِيهِ نَظَرٌ لِعَجْزِ الْمَخْلُوقِ عَنْ حَمْدٍ يَقُومُ بِحَقِّ الْخَالِقِ إلَّا إذَا جُعِلَتْ اللَّامُ لِلْعَهْدِ. وَالنِّعَمُ جَمْعُ نِعْمَةٍ بِكَسْرِ النُّونِ وَهِيَ الْمِنَّةُ وَالصَّنِيعَةُ وَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَتُطْلَقُ عَلَى الْإِنْعَامِ وَيَصِحُّ جَعْلُهَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِمَعْنَى الْمُنْعَمِ بِهِ وَبِمَعْنَى الْإِنْعَامِ قِيلَ: وَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ عَلَى الصِّفَاتِ أَوْلَى مِنْهُ عَلَى مُتَعَلِّقَاتِهَا وَأَمَّا النَّعْمَةُ بِالْفَتْحِ فَهِيَ التَّنَعُّمُ وَبِالضَّمِّ السُّرُورُ وَأَعْظَمُ النِّعَمِ الْهِدَايَةُ لِلْإِسْلَامِ وَمَعْنَى أَوْلَانَا أَعْطَانَا وَالْفَضْلُ الزِّيَادَةُ وَيُقَالُ عَلَى الْإِعْطَاءِ بِلَا سَبَبٍ وَلَا عِلَّةٍ وَالْكَرَمُ الْجُودُ وَيُطْلَقُ عَلَى كَرَمِ الْأَصْلِ وَجَعَلَ الْمُصَنِّفُ الْحَمْدَ فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ لِيَكُونَ شُكْرًا مُوجِبًا لِلْمَزِيدِ إذْ مِنْ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ إلْهَامُهُ لِتَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ ثُمَّ تَكْمِيلِهِ ثُمَّ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَعَطَفَ الشُّكْرَ عَلَيْهِ تَنْبِيهًا عَلَى حُصُولِ التَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ بِالْجَنَانِ وَالْأَرْكَانِ أَيْضًا فَإِنَّ الْحَمْدَ إنَّمَا هُوَ بِاللِّسَانِ كَمَا تَقَدَّمَ.
(فَائِدَةٌ) : قَالَ سَيِّدِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ السَّنُوسِيُّ حُكْمُ الْحَمْدِ الْوُجُوبُ مَرَّةً فِي الْعُمْرِ كَالْحَجِّ وَكَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى وَحُكْمُ الِابْتِدَاءِ بِهِ فِي أَوَّلِ الْمُصَنَّفَاتِ وَأَوَّلِ الْإِقْرَاءِ وَالْقِرَاءَةِ الِاسْتِحْبَابُ كَمَا ذَكَرَهُ الْفَاكِهَانِيُّ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الرِّسَالَةِ قَالَ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ الْبُدَاءَةُ بِالْحَمْدِ لِكُلِّ مُصَنِّفٍ وَدَارِسٍ وَمُدَرِّسٍ وَخَطِيبٍ وَخَاطِبٍ وَمُتَزَوِّجٍ وَمُزَوِّجٍ وَبَيْنَ يَدَيْ سَائِرِ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: قُلْت وَكَذَلِكَ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ الزِّيَادَةَ عَلَى الْحَمْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ)
ش: لَمَّا حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا تَزَايَدَ مِنْ النِّعَمِ وَشَكَرَهُ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ امْتِثَالٌ لِلْأَمْرِ وَإِلَّا فَلَيْسَ يُحْصِي الثَّنَاءَ عَلَيْهِ تَعَالَى أَحَدٌ وَأَصْلُ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلَوْ أَتَى بِهِ الْمُصَنِّفُ هَكَذَا لَكَانَ فِيهِ مَعَ مُوَافَقَةِ لَفْظِ الْحَدِيثِ الْتِفَاتٌ وَكَأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عَلَى أُسْلُوبٍ وَاحِدٍ وَلِأَجْلِ السَّجْعِ فِي قَوْلِهِ رَمْسِهِ وَمَعْنَى لَا أُحْصِي: لَا أُطِيقُ أَنْ أُثْنِيَ عَلَيْك بِمَا تَسْتَحِقُّ أَنْ يُثْنَى عَلَيْك بِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: مَعْنَاهُ لَا أُحْصِي نِعَمَك فَأُثْنِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute