للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْمُدَوَّنَةِ مَنْ أَطْلَقَ الْبَيْعَ عَلَى الْكِرَاءِ فِي اللَّفْظِ وَجَعَلَهُ كِرَاءً صَحِيحًا بِالنَّظَرِ لِلْمَعْنَى الْأَعَمِّ، لَكِنَّ إطْلَاقَ الْبَيْعِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ غَالِبًا فَلِذَلِكَ أَخْرَجَ ابْنُ عَرَفَةَ النِّكَاحَ وَالْإِجَارَةَ مِنْ حَدِّ الْبَيْعِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ فَقَالَ: الْبَيْعُ الْأَعَمُّ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى غَيْرِ مَنَافِعَ وَلَا مُتْعَةِ لَذَّةٍ، فَتَخْرُجُ الْإِجَارَةُ وَالْكِرَاءُ وَالنِّكَاحُ وَتَدْخُلُ هِبَةُ الثَّوَابِ وَالصَّرْفِ وَالْمُرَاطَلَةِ وَالسَّلَمِ، وَتَدْخُلُ فِيهِ الْمُبَادَلَةُ وَالْإِقَالَةُ وَالتَّوْلِيَةُ وَالشَّرِكَةُ فِي الشَّيْءِ الْمُشْتَرَى أَعْنِي تَوْلِيَةَ الْبَعْضِ، وَالْقِسْمَةُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا بَيْعٌ كَالشَّرِكَةِ فِي الْأَمْوَالِ، وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ لِصِدْقِ حَدِّ الْبَيْعِ الْأَعَمِّ عَلَيْهَا، وَلَا تَدْخُلُ الشُّفْعَةُ نَفْسُهَا؛ لِأَنَّهَا اسْتِحْقَاقُ الشَّرِيكِ أَخْذَ حِصَّةِ شَرِيكِهِ الَّتِي بَاعَهَا بِثَمَنِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَالْغَالِبُ عُرْفًا أَخَصُّ مِنْهُ بِزِيَادَةِ ذِي مُكَايَسَةٍ أَحَدُ عِوَضَيْهِ غَيْرَ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ مُعَيَّنٌ غَيْرَ الْعَيْنِ فِيهِ فَتَخْرُجُ الْأَرْبَعَةُ، وَيَعْنِي بِالْأَرْبَعَةِ هِبَةَ الثَّوَابِ وَالصَّرْفِ وَالْمُرَاطَلَةِ وَالسَّلَمِ، فَتَخْرُجُ مِنْهُ هِبَةُ الثَّوَابِ بِقَوْلِهِ: ذُو مُكَايَسَةٍ، وَالْمُكَايَسَةُ: الْمُغَالَبَةُ، قَالَ فِي الصِّحَاحِ: كَايَسْتُهُ فَكِسْتُهُ أَيْ غَلَبْتُهُ، وَهُوَ يُكَايِسُهُ فِي الْبَيْعِ اهـ. وَالْمُمَاكَسَةُ قَرِيبٌ مِنْ الْمُكَايَسَةِ، قَالَ فِي الْمُحْكَمِ: تَمَاكَسَ الْمُتَبَايِعَانِ تَشَاحَّا اهـ. وَيَخْرُجُ الصَّرْفُ وَالْمُرَاطَلَةُ بِقَوْلِهِ: أَحَدُ عِوَضَيْهِ غَيْرَ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، وَيَخْرُجُ السَّلَمُ بِقَوْلِهِ: مُعَيِّنٌ غَيْرَ الْعَيْنِ فِيهِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْعَيْنِ فِي السَّلَمِ لَا يَكُونُ مُعَيَّنًا، بَلْ إنَّمَا يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي حَدِّهِ لِلْبَيْعِ سَلَمُ الْعِوَضِ فِي عَرَضٍ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ الَّذِي هُوَ الْعِوَضَانِ لَمْ يَتَعَيَّنَا، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا الَّذِي هُوَ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ فَصَدَقَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ غَيْرُ الْعَيْنِ أَيْ جَمِيعُهُ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ بَعْضُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ وَدَفْعُ عِوَضٍ فِي مَعْلُومٍ قَدْرِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ غَيْرِ مَسْكُوكٍ لِأَجَلٍ سَلَمٌ لَا بَيْعٌ لِأَجَلٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اُسْتُحِقَّ لَمْ يَنْفَسِخْ بَيْعُهُ، وَلَوْ بِيعَ مُعَيَّنًا انْفَسَخَ بَيْعُهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ اهـ.

(قُلْت:) اُنْظُرْ هَذِهِ الصُّورَةَ الَّتِي حُكِمَ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا سَلَمٌ، فَإِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي حَدِّهِ لِلْبَيْعِ فَتَأَمَّلْهُ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:؛ " لِأَنَّهُ لَوْ اُسْتُحِقَّ " عَائِدٌ عَلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَكَذَا يَدْخُلُ فِي حَدِّهِ لِلْبَيْعِ السَّلَمُ فِي ثَمَرِ حَائِطٍ بِعَيْنِهِ مَعَ أَنَّهُ يُسَمَّى سَلَمًا، وَيَدْخُلُ فِيهِ بَعْضُ أَنْوَاعِ الصُّلْحِ كَمَا لَوْ صَالَحَ عَنْ دَيْنٍ لَهُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ بِعِوَضٍ يُسَاوِي ذَلِكَ أَوْ يُقَارِبُهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ، وَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَا مُتْعَةَ لَذَّةٍ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: عَلَى غَيْرِ مَنَافِعَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الْمَازِرِيِّ وَابْنِ بَشِيرٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْبُرْزُلِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ كَلَامَ ابْنِ عَرَفَةَ ظَاهِرُ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ وَأَجْوِبَتِهَا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ وَمَاهِيَّتِه فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ، وَحَقَائِقُ الْأَشْيَاءِ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ فَهُوَ الْمُحِيطُ بِهَا مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ فَهُوَ الْعَالِمُ بِمَا يُحَصِّلُهَا، وَالْمَطْلُوبُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ وَغَيْرِهَا إنَّمَا هُوَ مَا يُمَيِّزُهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ عَمَّا يُشَارِكُهَا فِي بَعْضِ حَقَائِقِهَا حَتَّى يَخْرُجَ عَنْهَا مَا يَسْرِي إلَى النَّفْسِ، مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: مَا الْإِنْسَانُ، فَيُقَالُ: مُنْتَصِبُ الْقَامَةِ فَيَحْصُلُ تَمْيِيزُهُ عَنْ بَاقِي الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُسْرِعُ إلَى النَّفْسِ دُخُولُهَا لَا كُلُّ حَقِيقَةٍ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْحَائِطُ وَالْعَمُودُ وَكُلُّ مُنْتَصِبِ الْقَامَةِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ فِي هَذَا الْكَلَامِ لَمْ يَقَعْ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، قَالَ بَعْضُ حُذَّاقِ الْمَنْطِقِيِّينَ: وَهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرًا مَا يَقَعُ مِنْ حُكَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ قَصْدُهُمْ التَّمْيِيزَ عَلَى مَا يَحْصُلُ التَّمْيِيزُ فِي النَّفْسِ، وَلَوْ بِأَدْنَى خَاصِّيَّةٍ فَيَعْتَرِضُ عَلَيْهِمْ الْمُتَأَخِّرُونَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِالْحَقَائِقِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ الذَّاتِيَّاتِ، وَهُمْ لَا يَقْصِدُونَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَكَذَلِكَ أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ الْبَنَّاءِ فِي رَفْعِ الْحِجَابِ فِي بَعْضِ رُسُومِ التَّلْخِيصِ فَكُلُّ مَنْ عَرَّفَ الْبَيْعَ بِمَا عَرَّفَهُ بِهِ إنَّمَا هُوَ تَصَوَّرَ مَعْرِفَتَهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَا تَحْصُلُ مَعْرِفَتُهُ بِجَمِيعِ الذَّاتِيَّاتِ فَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِمْ ضَعِيفٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ.

وَبَعْضُهُمْ يُقَسِّمُ الْبَيْعَ الْأَعَمَّ وَيَزِيدُ فِي التَّفْصِيلِ فِي بَيْعِ الْمَنَافِعِ فَيَقُولُ: لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْعَ أَعْيَانٍ أَوْ بَيْعَ مَنَافِعَ، وَالْمَنَافِعُ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَنَافِعُ جَمَادٍ وَهُوَ الْمُتَرْجَمُ لَهُ بِأَكْرِيَةِ الدُّورِ

<<  <  ج: ص:  >  >>