لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ هَذِهِ الصُّورَةَ أَوْ يَحْكِيَ فِيهَا خِلَافًا إنْ كَانَ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ كَلَامُ الْبَاجِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي حَمْلِ كَلَامِ الْمُدَوَّنَةِ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَحَكَى فِي الطِّرَازِ عَنْ التُّونُسِيِّ تَرَدُّدًا فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَجِّحَ أَحَدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا.
(تَنْبِيهٌ) اسْتَثْنَى الرَّجْرَاجِيُّ مِنْ صُوَرِ الْعَجْزِ الصُّورَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ مَا إذَا أَعَدَّ مِنْ الْمَاءِ مَا لَا يَكْفِيهِ قَطْعًا فَإِنَّهُ لَا يَبْنِي طَالَ أَوْ لَمْ يَطُلْ وَنَصُّهُ: وَأَمَّا إنْ تَعَمَّدَ وَأَخَذَ مَا لَا يَكْفِيهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ طَالَ أَوْ لَمْ يَطُلْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَمَّدَ إلَى تَفْرِيقِ الطَّهَارَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمَشَذَّالِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: فِي قَوْلِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ فَعَجَزَ مَاؤُهُ يُرِيدُ إذَا أَعَدَّ مَا يَكْفِيهِ وَإِلَّا ابْتَدَأَ.
(قُلْتُ) وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ إلَّا أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيقُ يَسِيرًا مِمَّا يُغْتَفَرُ ابْتِدَاءً وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: بِجَفَافِ أَعْضَاءٍ بِزَمَنٍ اعْتَدَلَا أَيْ الْأَعْضَاءُ وَالزَّمَانُ وَهَذَا بَيَانٌ لِحَدِّ الطُّولِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِجَفَافِ الْأَعْضَاءِ مِنْ الْجِسْمِ الْمُعْتَدِلِ فِي الزَّمَانِ الْمُعْتَدِلِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْجَفَافِ مَظِنَّةُ الْقُرْبِ فِي الْعَادَةِ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالتَّقْيِيدُ بِالْجُفُوفِ لِأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَنْبَلٍ وَجَمَاعَةٍ فَكَانَ قِيَامُ الْبَلَلِ عِنْدَهُمْ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ أَثَرِ الْوُضُوءِ فَيَتَّصِلُ الْأَخِيرُ بِأَثَرِ الْغَسْلِ السَّابِقِ وَقِيلَ: بَلْ الطُّولُ مُحَدَّدٌ بِالْعُرْفِ حَكَاهُ الْقَابِسِيُّ وَعِيَاضٌ قَالَ ابْنُ نَاجِي وَعَزَا الْفَاكِهَانِيُّ الْأَوَّلَ لِابْنِ حَبِيبٍ فَقَطْ وَهُوَ قُصُورٌ؛ لِأَنَّهُ نَصُّ الْمُدَوَّنَةِ.
(قُلْتُ) قَدْ عَزَاهُ الْفَاكِهَانِيُّ فِي بَاب صِفَةِ الْوُضُوءِ لِلْمُدَوَّنَةِ وَنَصُّهُ وَأَمَّا حَدُّ التَّفَاحُشِ فَأَشَارَ فِي الْكِتَابِ إلَى أَنَّ الضَّابِطَ فِي التَّفَاحُشِ أَنْ يَجِفَّ مَا غُسِلَ مِنْ أَعْضَائِهِ، وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ فِي الزَّمَانِ الْمُعْتَدِلِ وَالْمِزَاجِ الْمُعْتَدِلِ مِنْ النَّاسِ وَأَمَّا فِي بَابٍ جَامِعٍ فِي الصَّلَاةِ فَعَزَاهُ لِابْنِ حَبِيبٍ وَنَصُّهُ: وَعِنْدَ ابْنِ حَبِيبٍ مِقْدَارُهُ مَا يَجِفُّ وَضُوءُهُ فِي زَمَنٍ مُعْتَدِلٍ، وَكَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يَزِيدُ فِي الْأَعْضَاءِ الْمُعْتَدِلَةِ يُرِيدُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرُّطُوبَةِ وَالْقَشَابَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ مُرَادُهُ وَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي التَّوْضِيحِ الْجِسْمَ الْمُعْتَدِلَ، وَقَوْلِ غَيْرِهِ الْبَدَنَ الْمُعْتَدِلَ اعْتِدَالُ الْمِزَاجِ، لَا كَوْنُ الشَّخْصِ بَيْنَ الشَّبَابِ وَالشُّيُوخَةِ بَلْ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ اعْتِدَالِ الْمِزَاجِ غَالِبًا، وَصَرَّحَ الْجُزُولِيُّ وَالشَّيْخُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بِأَنَّ الْمَشْهُورَ فِي الطُّولِ التَّحْدِيدُ بِالْعُرْفِ، وَلَكِنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ) قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ: هُنَا دَقِيقَةٌ فِي اعْتِبَارِ الْجَفَافِ وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يُعْتَبَرْ الْجَفَافُ مِنْ آخِرِ أَجْزَاءِ الْفِعْلِ الْمَأْتِيِّ بِهِ أَوْ مِنْ أَوَّلِ الْأَعْضَاءِ حَتَّى لَوْ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ وَقَعَ فَصْلٌ ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ قَبْلَ جَفَافِ مَاءِ الْيَدَيْنِ وَبَعْدَ جَفَافِ مَاءِ الْوَجْهِ هَلْ يَضُرُّ ذَلِكَ أَوْ لَا؟ وَكَذَلِكَ هَلْ الِاعْتِبَارُ بِالْغَسْلَةِ الْأَخِيرَةِ أَوْ الْأُولَى حَتَّى لَوْ طَالَ الْفَصْلُ نِسْيَانًا بَيْنَ الْغَسْلَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَغَسَلَ الثَّالِثَةَ ثُمَّ غَسَلَ الْعُضْوَ الَّذِي يَلِي الثَّانِيَةَ بَعْدَ مُدَّةٍ يَجِفُّ فِيهَا بَلَّةُ الْأُولَى دُونَ الثَّالِثَةِ هَلْ يَضُرُّ أَمْ لَا؟ قَالَهُ تَقِيُّ الدِّينِ انْتَهَى.
(قُلْتُ) وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِمْ اغْتِفَارُ ذَلِكَ جَمِيعِهِ وَأَنَّهُ مَا دَامَ الْبَلَلُ مَوْجُودًا جَازَ الْبِنَاءُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ) إذَا قُلْنَا يَبْنِي فِي النِّسْيَانِ مُطْلَقًا فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْمُبَادَرَةُ عِنْدَ ذِكْرِهِ فَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ عَامِدًا بَطَلَ وُضُوءُهُ إنْ تَفَاحَشَ، وَإِنْ لَمْ يَتَفَاحَشْ لَمْ يَبْطُلْ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: فَإِنْ أَخَّرَ حِينَ ذَكَرَهُ فَكَالْمُتَعَمِّدِ وَسَيَأْتِي لَفْظُ الْمُدَوَّنَةِ، وَقَالَ فِي النُّكَتِ وَلَوْ أَنَّهُ حِينَ ذَكَرَ هَذِهِ اللُّمْعَةَ لَمْ يَغْسِلْهَا فِي الْوَقْتِ ثُمَّ غَسَلَهَا بِالْقُرْبِ، فَإِنْ كَانَ إنَّمَا تَرَاخَى الْمِقْدَارَ الَّذِي لَوْ فَرَّقَ فِيهِ طَهَارَتَهُ لَمْ يَبْتَدِئْ الطَّهَارَةَ لِقُرْبِ ذَلِكَ لَمْ يَبْتَدِئْ جَمِيعَ طَهَارَتِهِ وَإِلَّا فَعَلَيْهِ ابْتِدَاءُ طَهَارَتِهِ مِنْ أَوَّلِهَا نَقَلَهُ فِي الطِّرَازِ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ ذَكَرَ اللُّمْعَةَ أَوْ الْعُضْوَ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَجِدْ فِيهِ مَا يَغْسِلُهَا بِهِ فَحَكَى فِي النُّكَتِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدِ مِنْ شُيُوخِهِ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَنْ عَجَزَ مَاؤُهُ إنْ طَالَ طَلَبُهُ لِلْمَاءِ ابْتَدَأَ جَمِيعَ طَهَارَتِهِ، وَنَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَحَكَى عَبْدُ الْحَقِّ فِي تَهْذِيبِ الطَّالِبِ لَهُ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا لِلْإِبْيَانِيِّ أَنَّهُ يَبْنِي مُطْلَقًا وَجَدَ الْمَاءَ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا إذَا لَمْ يُفَرِّطْ، وَمَضَى مُبَادِرًا، وَالثَّانِي مَا تَقَدَّمَ عَنْ النُّكَتِ وَنَصُّهُ بَعْدَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute