بَلَلٍ لِقِلَّةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ الْمَاءِ إلَّا أَنْ تَكُونَ لِحْيَتُهُ عَظِيمَةً بِحَيْثُ يَكُونُ فِيهَا مِنْ الْمَاءِ مَا فِيهِ كِفَايَةُ الْمَسْحِ فَأَجَازَ ذَلِكَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَمَنَعَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَخَرَّجَ ابْنُ رُشْدٍ وَصَاحِبُ الطِّرَازِ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَإِنْ ذَكَرَ فِي صَلَاتِهِ أَنَّهُ نَسِيَ مَسْحَ رَأْسِهِ قَطَعَ وَلَمْ يُجْزِهِ مَسْحُهُ بِمَا فِي لِحْيَتِهِ مِنْ بَلَلٍ وَيَسْتَأْنِفُ مَسْحَهُ وَيَبْتَدِئُ الصَّلَاةَ وَلَا يُعِيدُ غَسْلَ رِجْلَيْهِ إنْ كَانَ وَضَوْءُهُ قَدْ جَفَّ.
قَالَ ابْنُ نَاجِي: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ أَعَادَ أَبَدًا وَهُوَ كَذَلِكَ، عَزَاهُ الْعُتْبِيُّ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَعَزَاهُ غَيْرُهُ لِمَالِكٍ انْتَهَى. وَنَصُّ مَا فِي الْعُتْبِيَّةِ فِي رَسْمِ سَلَفٍ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مَسْحِ رَأْسِهِ بِفَضْلِ ذِرَاعَيْهِ قَالَ: لَا أُحِبُّ ذَلِكَ، قِيلَ لِابْنِ الْقَاسِمِ فَلَوْ مَسَحَ بِفَضْلِ ذِرَاعَيْهِ وَبِفَضْلِ لِحْيَتِهِ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ قَالَ: يُعِيدُ وَإِنْ ذَهَبَ الْوَقْتُ وَلَيْسَ هَذَا بِمَسْحٍ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: أَمَّا مَسْحُ رَأْسِهِ بِفَضْلِ ذِرَاعَيْهِ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِمَا مِنْ الْمَاءِ مَا يُمْكِنُهُ بِهِ الْمَسْحُ وَلَيْسَ فِي قَوْلِ مَالِكٍ لَا أُحِبُّ دَلِيلٌ عَلَى الْإِجْزَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ لَا أُحِبُّ فِيمَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ يَكْرَهُونَ أَنْ يَقُولُوا هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادِ، وَيَكْتَفُونَ بِقَوْلِهِمْ أَكْرَهُهُ وَلَا أُحِبُّهُ وَلَا بَأْسَ بِهِ وَمَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ الْأَلْفَاظِ.
فَيُكْتَفَى بِذَلِكَ عَنْ قَوْلِهِمْ، وَكَذَلِكَ فَضْلُ اللِّحْيَةِ إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا مِنْ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِ لِلْمَسْحِ، وَعَلَى هَذَا تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ: وَلَيْسَ هَذَا بِمَسْحٍ. وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيمَنْ عَظُمَتْ لِحْيَتُهُ فَكَانَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْمَاءِ كِفَايَةٌ لِلْمَسْحِ وَأَجَازَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ لِمَنْ ذَكَرَ مَسْحَ رَأْسِهِ وَقَدْ بَعُدَ عَنْهُ الْمَاءُ أَنْ يَمْسَحَ بِذَلِكَ الْبَلَلِ وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَالْخِلَافُ جَارٍ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِثْلَ الْمَعْلُومِ مِنْ قَوْلِ أَصْبَغَ خِلَافُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ انْتَهَى.
وَكَذَلِكَ خَرَّجَ اللَّخْمِيُّ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمُسْتَعْمَلِ قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ.
(قُلْتُ) وَكَذَا ابْنُ بَشِيرٍ وَفِي التَّخْرِيجِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ كِفَايَةٌ أَوْ كَانَ مُتَغَيِّرًا أَوْ كَانَ الْمَاءُ مِنْهُ قَرِيبًا، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا أَوْ لَيْسَ عِنْدَهُ غَيْرُهُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَفْسِيرًا لِلْمُدَوَّنَةِ لَا خِلَافًا، وَلِهَذَا قَالَ سَنَدٌ بَعْدَ ذِكْرِهِ كَلَامَ الْمُدَوَّنَةِ وَقَوْلَ ابْنِ الْمَاجِشُونِ: وَجْهُ الْمَذْهَبِ عَلَى قَوْلِنَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ هُوَ أَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْبَلَلِ فِي شَعْرِ وَجْهِهِ لَا يَكَادُ فِي غَالِبِ النَّاسِ أَنْ تَقَعَ بِهِ الْكِفَايَةُ فِي إيعَابِ يَدَيْهِ فَضْلًا عَنْ إيصَالِ الْبَلَلِ مِنْ يَدَيْهِ إلَى جَمِيعِ رَأْسِهِ، وَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ: إنْ لَمْ يُوعِبْ جَمِيعَ رَأْسِهِ بِالْمَاءِ مَسْحًا لَمْ يُجْزِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يُوعِبْ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ غَسْلًا فَإِنْ صَوَّرَ مُصَوِّرٌ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ يَجِدُ مِنْ الْمَاءِ كِفَايَتَهُ يَعْنِي فِي لِحْيَتِهِ فَلَا وَجْهَ لِلْكَلَامِ فِي ذَلِكَ إلَّا مِنْ نَاحِيَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ إلَّا أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ تَقِلُّ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ بِعُمُومِ الْمَاءِ غَالِبَ الْأَحْوَالِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي شَرْحِ ابْنِ الْحَاجِبِ عَلَى مَا نَقَلَ عَنْهُ صَاحِبُ الْجَمْعِ: إنْ كَانَ الْبَلَلُ لَمْ يَعُمَّ رَأْسَهُ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ كَانَ يَعُمُّ لَكِنَّهُ مُتَغَيِّرٌ بِأَوْسَاخٍ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ مُضَافٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَغَيِّرًا فَهُوَ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مَاءٌ قَرِيبٌ فَمَذْهَبُهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ بَعِيدًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْزِيَهُ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي الْوَاضِحَةِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لَا خِلَافٌ انْتَهَى.
وَذَكَرَ ابْنُ نَاجِي كَلَامَ ابْنِ رَاشِدٍ وَاسْتَبْعَدَهُ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْمَازِرِيِّ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَعْدَ الْوُقُوعِ. قَالَ: وَيَرُدُّهُ نَقْلُ الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ إنْ بَعُدَ عَنْ الْمَاءِ فَلْيَمْسَحْ بِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ ابْنِ زَرْقُونٍ أَنَّهُ نَقَلَ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ فِي بَلَلِ الذِّرَاعَيْنِ أَنَّهُ كَبَلَلِ اللِّحْيَةِ وَرَدَّهُ بِنَقْلِ الشَّيْخِ عَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute