نَعَمْ إنْ شَعَرْنَا بِالْمُحَرَّمِ وَنَوَيْنَا تَرْكَهُ لِلَّهِ تَعَالَى حَصَلَ لَنَا مَعَ الْخُرُوجِ مِنْ الْعُهْدَةِ الثَّوَابُ فَالنِّيَّةُ شَرْطٌ فِي الثَّوَابِ لَا فِي الْخُرُوجِ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَالْأَوَامِرُ مِنْهَا مَا يَكُونُ صُورَةُ فِعْلِهِ كَافِيَةً فِي تَحْصِيلِ مَصْلَحَتِهِ كَأَدَاءِ الدُّيُونِ وَالْوَدَائِعِ وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ انْتِفَاعُ أَرْبَابِهَا، وَذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِ الْفَاعِلِ فَيَخْرُجُ الْإِنْسَانُ عَنْ عُهْدَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ صُورَةُ فِعْلِهِ كَافِيَةً فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ كَالصَّلَوَاتِ وَالطَّهَارَاتِ وَالصِّيَامِ وَالنُّسُكِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْخُضُوعُ لَهُ وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ إذَا قُصِدَتْ مِنْ أَجَلِهِ وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ الشَّرْعُ فِيهِ بِالنِّيَّاتِ.
(السَّادِسُ) فِي شُرُوطِهَا وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمُكْتَسَبٍ لِلنَّاوِي فَإِنَّهَا مُخَصَّصَةٌ وَتَحْصِيلُ غَيْرِ الْمَفْعُولِ لِلْمُخَصِّصِ مُحَالٌ، وَكَذَلِكَ امْتَنَعَ نِيَّةُ الْإِنْسَانِ لِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَيَشْكُلُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ نِيَّةُ الْإِمَامِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ حَالَ الْإِمَامَةِ مُسَاوِيَةٌ لِصَلَاتِهِ حَالَ الِانْفِرَادِ وَالْإِمَامَةُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ وَالنِّسَبُ عَدَمِيَّةٌ وَالْعَدَمُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ قُدْرَةُ الْعَبْدِ فَهَذِهِ النِّيَّةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُكْتَسَبٍ، وَأَجَابَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ النِّيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِمُكْتَسَبٍ وَلَا مُكْتَسَبَ اسْتِقْلَالًا أَوْ تَبَعًا لِمُكْتَسَبٍ كَالْوُجُوبِ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ وَالنَّدْبِ فِي صَلَاةِ الضُّحَى، وَلَيْسَ الْوُجُوبُ وَالنَّدْبُ بِمُكْتَسَبٍ لِلْعَبْدِ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى قَدِيمَةٌ فَحَسُنَ الْقَصْدُ إلَيْهَا تَبَعًا لِقَصْدِ الْمُكْتَسَبِ فَكَذَلِكَ الْإِمَامَةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِعْلًا زَائِدًا عَلَى الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِمُكْتَسَبٍ وَهُوَ الصَّلَاةُ فَأَمْكَنَ الْقَصْدُ إلَيْهَا تَبَعًا.
(الشَّرْطُ الثَّانِي) أَنْ يَكُونَ الْمَنْوِيُّ مَعْلُومَ الْوُجُوبِ أَوْ مَظْنُونَ الْوُجُوبِ فَإِنَّ الْمَشْكُوكَ تَكُونُ النِّيَّةُ فِيهِ مُتَرَدِّدَةً فَلَا تَنْعَقِدُ فَلِذَلِكَ لَا تَصِحُّ طَهَارَةُ الْكَافِرِ قَبْلَ اعْتِقَادِهِ الْإِسْلَامَ؛ لِأَنَّهُمَا عِنْدَهُ غَيْرُ مَعْلُومَيْنِ وَلَا مَظْنُونَيْنِ وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الشَّرْطِ فُرُوعٌ يَأْتِي ذِكْرُهَا.
(الشَّرْطُ الثَّالِثُ) أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلْمَنْوِيِّ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْعِبَادَةِ لَوْ عَرَا عَنْ النِّيَّةِ لَكَانَ أَوَّلُهَا مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَغَيْرِهَا، وَآخِرُ الصَّلَاةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَوَّلِهَا فَإِذَا كَانَ أَوَّلُهَا مُتَرَدِّدًا كَانَ آخِرُهَا كَذَلِكَ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ الصَّوْمُ لِلْمَشَقَّةِ فَجَوَّزُوا عَدَمَ مُقَارَنَةِ النِّيَّةِ لِأَوَّلِ الْمَنْوِيِّ لِإِتْيَانِ أَوَّلِ الصَّوْمِ حَالَةَ النَّوْمِ غَالِبًا، وَالزَّكَاةُ فِي الْوَكَالَةِ عَلَى إخْرَاجِهَا وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ أَيْضًا.
(السَّابِعُ) فِي أَقْسَامِهَا النِّيَّةُ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ لَكِنَّهَا تَنْقَسِمُ بِحَسَبِ مَا يَعْرِضُ لَهَا إلَى قِسْمَيْنِ: فِعْلِيَّةٌ مَوْجُودَةٌ وَحُكْمِيَّةٌ مَعْدُومَةٌ فَإِذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْعِبَادَةِ فَهَذِهِ نِيَّةٌ فِعْلِيَّةٌ، ثُمَّ إذَا ذَهَلَ عَنْهَا فَهِيَ نِيَّةٌ حُكْمِيَّةٌ بِمَعْنَى أَنَّ الشَّرْعَ حَكَمَ بِاسْتِصْحَابِهَا وَكَذَلِكَ الْإِخْلَاصُ وَالْإِيمَانُ وَالنِّفَاقُ وَالرِّيَاءُ وَجَمِيعُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ إذَا شَرَعَ فِيهَا وَاتَّصَفَ الْقَلْبُ بِهَا كَانَتْ فِعْلِيَّةً، ثُمَّ إذَا ذَهَلَ عَنْهَا حَكَمَ صَاحِبُ الشَّرْعِ بِبَقَاءِ أَحْكَامِهَا لِمَنْ اتَّصَفَ بِهَا حَتَّى لَوْ مَاتَ الْإِنْسَانُ مَغْمُورًا بِالْمَرَضِ لَحَكَمَ لَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ بِالْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمِ بَلْ بِالْوِلَايَةِ أَوْ الصِّدِّيقِيَّةِ وَجَمِيعِ الْمَعَارِفِ، وَعَكْسُهُ يُحْكَمُ لَهُ بِالْكُفْرِ ثُمَّ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} [طه: ٧٤] مَعَ أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَكُونُ أَحَدٌ مُجْرِمًا وَلَا كَافِرًا وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا أَيْضًا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى عُزُوبِهَا.
(الثَّامِنُ) فِي أَقْسَامِ الْمَنْوِيِّ وَأَحْوَالِهِ الْمَنْوِيُّ مِنْ الْعِبَادَاتِ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ كَالصَّلَاةِ، وَالثَّانِي مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا مَعَ كَوْنِهِ مَقْصُودًا لِغَيْرِهِ فَهُوَ أَيْضًا مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ كَالْوُضُوءِ فَإِنَّهُ نَظَافَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْمَصْلَحَةِ وَهُوَ مَطْلُوبٌ لِلصَّلَاةِ مُكَمِّلٌ لِحُسْنِ هَيْئَاتِهَا، وَالثَّانِي مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ فَقَطْ كَالتَّيَمُّمِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِتَجْدِيدِ الْوُضُوءِ دُونَ التَّيَمُّمِ، وَالْمَقْصُودُ إنَّمَا هُوَ تَمْيِيزُ الْمَقْصُودِ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُهِمُّ فَلَا جَرَمَ إذَا نَوَى التَّيَمُّمَ دُونَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ فَقَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ بِالنِّيَّةِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ وَالثَّانِي: يُجْزِئُهُ لِكَوْنِهِ عِبَادَةً، وَاَلَّذِي هُوَ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ يَتَخَيَّرُ الْمُكَلَّفُ بَيْنَ قَصْدِهِ لَهُ لِكَوْنِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute