للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْخَلَاءِ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَتْرُكُ الذِّكْرَ إلَّا غَلَبَةً فَرَآهُ تَقْصِيرًا، قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ الذِّكْرِ فِي تِلْكَ الْحَالِ فَإِنَّهُ يُثَابُ بِتَرْكِهِ وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ الْحَمْدُ عَلَيْهِ لَا الِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ وَنُظِرَ فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا بِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ لَا تُحْصَى فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ مَتَى أَتَتْهُ نِعْمَةٌ، قَالَ: وَإِنَّمَا الْوَجْهُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُكْثِرُ الِاسْتِغْفَارَ حَتَّى أَنَّهُ لَيُعَدُّ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةُ مَرَّةٍ فَجَرَى عَلَى عَادَتِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ دَأْبُهُ الِاسْتِغْفَارَ تَجِدُهُ عِنْدَ حَرَكَاتِهِ وَتَقَلُّبَاتِهِ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى، وَأَمَّا مَا وَرَدَ قَبْلَهُ فَهُوَ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ» (وَالْخَلَاءُ) بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالْمَدِّ الْمَكَانُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ ثُمَّ نُقِلَ إلَى مَوْضِعِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ كَمَا سَيَأْتِي وَبِالْقَصْرِ الرَّطْبُ مِنْ الْحَشِيشِ وَخَلَا أَيْضًا حَرْفُ اسْتِثْنَاءٍ وَفِعْلُ اسْتِثْنَاءٍ وَالْخِلَاءُ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالْمَدِّ فِي النُّوقِ كَالْحُرُنِ فِي الْخَيْلِ، وَفِي رِوَايَةٍ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ وَفِي أُخْرَى إذَا دَخَلَ الْكَنِيفَ (وَالْخُبُثُ) بِضَمِّ الْبَاءِ جَمْعُ خَبِيثٍ وَالْخَبَائِثُ جَمْعُ خَبِيثَةٍ، يُرِيدُ ذُكْرَانَ الشَّيَاطِينِ وَإِنَاثَهُمْ وَيُرْوَى بِسُكُونِ الْبَاءِ، قَالَ الطِّيبِيُّ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ: وَيُرَادُ بِهِ الْكُفْرُ وَبِالْخَبَائِثِ الشَّيَاطِينُ، انْتَهَى. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ عَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يُسْكِنُونَ الْبَاءَ وَهُوَ غَلَطٌ وَالصَّوَابُ ضَمُّهَا نَقَلَهُ فِي الطِّرَازِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَلَا يَصِحُّ قَوْلُ مَنْ أَنْكَرَ الْإِسْكَانَ وَذَكَرَ عَنْ ابْنِ التِّينِ وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ النَّجِسِ وَالرِّجْسِ الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» وَقَالَ فِي الْمَدْخَلِ فِي صِفَةِ الذِّكْرِ هُوَ أَنْ يَقُولَ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ النَّجِسِ الرِّجْسِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. زَادَ فِي الزَّاهِي بَعْدَ قَوْلِهِ: الرِّجْسِ النَّجِسِ، الضَّالِّ الْمُضِلِّ.

(تَنْبِيهٌ) وَيُجْمَعُ مَعَ هَذَا الذِّكْرِ التَّسْمِيَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُشْرَعُ فِيهَا التَّسْمِيَةُ الدُّخُولَ لِلْخَلَاءِ وَالْخُرُوجَ مِنْهُ وَيَبْدَأُ بِالتَّسْمِيَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْإِرْشَادِ وَقَالَ: إنَّهُ فِي حَالِ تَقَدُّمَةِ الرِّجْلِ الْيُسْرَى.

قَالَ الشَّيْخُ سُلَيْمَانُ الْبُحَيْرِيُّ: وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّهُ يُقَدِّمُ التَّعَوُّذَ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَ رِجْلَهُ وَلَفْظُ الْإِرْشَادِ وَيُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى قَائِلًا: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ وَمِنْ الرِّجْسِ النَّجِسِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ يَقُولُ ذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِهِ إلَى مَوْضِعِ الْحَدَثِ أَوْ بَعْدَ وُصُولِهِ إنْ كَانَ الْمَوْضِعُ غَيْرَ مُعَدٍّ لِلْحَدَثِ وَقِيلَ بِجَوَازِهِ وَإِنْ كَانَ مُعَدًّا لَهُ وَحُكْمُهُ تَقَدُّمَةِ هَذَا الذِّكْرِ مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ سِتْرُ مَا بَيْنَ أَعْيُنِ الْجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إذَا دَخَلَ الْكَنِيفَ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ» وَالسِّتْرُ هُنَا بِكَسْرِ السِّينِ اسْمٌ قَالَهُ الدَّمِيرِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ.

(فَائِدَتَانِ الْأُولَى) خُصَّ هَذَا الْمَوْضِعُ بِالِاسْتِعَاذَةِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ خَلَاءٌ وَلِلشَّيَاطِينِ بِعَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ تَسَلُّطٌ بِالْخَلَاءِ مَا لَيْسَ لَهُ فِي الْمَلَأِ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ» الثَّانِي أَنَّهُ مَوْضِعُ قَذَرٍ يُنَزَّهُ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ عَنْ جَرَيَانِهِ عَلَى اللِّسَانِ فَيَغْتَنِمُ الشَّيْطَانُ عَدَمَ ذِكْرِهِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ يَطْرُدُهُ فَأُمِرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ قَبْلَ ذَلِكَ لِيَعْقِدَهَا عِصْمَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى يَخْرُجَ.

(الثَّانِيَةُ) كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْصُومًا مِنْ الشَّيْطَانِ حَتَّى مِنْ الْمُوَكَّلِ بِهِ بِشَرْطِ اسْتِعَاذَتِهِ كَمَا أَنَّهُ غُفِرَ لَهُ بِشَرْطِ اسْتِغْفَارِهِ، انْتَهَى. مِنْ أَوَّلِ الْعَارِضَةِ لِابْنِ الْعَرَبِيِّ.

ص (فَإِنْ فَاتَ فَفِيهِ إنْ لَمْ يَعُدْ)

ش: إنَّمَا قَدَّمَ الشَّيْخُ قَوْلَهُ: بَعْدَهُ، عَلَى قَوْلِهِ: قَبْلَهُ لِيُرَتَّبَ عَلَيْهِ هَذَا الْفَرْعَ وَفُهِمَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَقُولُ: الذِّكْرُ الْمُتَقَدِّمُ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى مَحِلِّ الْحَدَثِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْضِعُ مُعَدًّا لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ أَمْ لَا فَإِنْ فَاتَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى الْمَحِلِّ قَالَهُ بَعْدَ وُصُولِهِ إلَى الْمَحِلِّ إنْ لَمْ يَكُنْ مُعَدًّا لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَهَذَا نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ الذَّخِيرَةِ وَمَا سَيَأْتِي عَنْ الْجَوَاهِرِ.

(تَنْبِيهٌ) قَيَّدَ ابْنُ هَارُونَ ذَلِكَ بِمَا قَبْلَ جُلُوسِهِ لِلْحَدَثِ

<<  <  ج: ص:  >  >>