الرِّوَايَةِ بِالتَّخْيِيرِ تَعَارُضُ مُقْتَضَيَاتِ التَّقْدِيمِ مَعَ الِاتِّفَاقِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْأَوْلَى وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى التَّسْلِيمَتَيْنِ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ أَكْثَرُ مِنْ تَسْلِيمَتَيْنِ وَقَالَ الْبَاجِيُّ: إنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً وَجَبَ أَنْ يُفْرِدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِتَسْلِيمَةٍ. قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرُدُّ عَلَى جَمِيعِ الْمَأْمُومِينَ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الرَّدُّ، فَأَجْزَأَ فِيهِ سَلَامٌ وَاحِدٌ، كَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فَجَمَعَهُمْ فِي الرَّدِّ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ هَلْ يَرُدُّ عَلَى الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً؟ قِيلَ يَرُدُّ قِيَاسًا عَلَى جُمْلَةِ الْمَأْمُومِينَ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ تَسْلِيمَةً، وَقِيلَ: لَا يَجْمَعُ تَشْرِيفًا لِلْإِمَامِ، انْتَهَى.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) مَا فَسَّرْنَا بِهِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ مِنْ أَنَّ الرَّدَّ عَلَى الْإِمَامِ وَعَلَى الْيَسَارِ إنْ كَانَ فِيهِ أَحَدٌ سُنَّةٌ وَاحِدَةٌ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي قَوَاعِدِهِ، وَعَدَّهُمَا الشَّبِيبِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ وَفِي قَوَاعِدِهِ سُنَّتَيْنِ، وَعَدَّهُمَا ابْنُ جَمَاعَةَ فِي فَرْضِ الْعَيْنِ فَضِيلَتَيْنِ وَعَدَّ ابْنُ يُونُسَ وَابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتُ وَالْقَرَافِيُّ الرَّدَّ عَلَى الْإِمَامِ مِنْ السُّنَنِ وَلَمْ يَذْكُرُوا مَعَهُ الرَّدَّ عَلَى الْيَسَارِ وَلَا نَبَّهُوا عَلَى حُكْمِهِ، وَقَالَ الْقَبَّابُ فِي شَرْحِ قَوَاعِدِ الْقَاضِي عِيَاضٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كَلَامَهُ: عَدَّ ابْنُ يُونُسَ وَابْنُ رُشْدٍ الرَّدَّ عَلَى الْإِمَامِ مِنْ السُّنَنِ وَلَمْ يَعُدُّوا فِيهَا الرَّدَّ عَلَى مَنْ عَلَى الْيَسَارِ.
(الثَّانِي) قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى مَنْ عَلَى يَسَارِهِ فَهَلْ يُشْتَرَطُ تَأْخِيرُ الرَّدِّ حَتَّى يُسَلِّمَ مَنْ فِي الْيَسَارِ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ مُشْتَرَطٍ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُؤَخِّرَ سَلَامَهُ بَلْ يَتَحَلَّلَ عَقِبَ سَلَامِ إمَامِهِ فَيُوقِعَ الرَّدَّ مَوْقِعَهُ، فَمَنْ أَخَّرَ سَلَامَهُ لَمْ يَنْتَظِرْ وَرَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ سَلَامَهُ لَمَّا كَانَ لَا بُدَّ مِنْهُ كَانَ فِي حُكْمِ الْوَاقِعِ، وَتَعَلَّقَ الرَّدُّ بِمَحِلِّهِ وَقَعَ فِيهِ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُ، انْتَهَى. وَنَقَلَهُ التِّلِمْسَانِيُّ فِي شَرْحِ الْجَلَّابِ فَأَسْقَطَ مِنْهُ لَفْظَ " غَيْرُ " وَقَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مُشْتَرَطٌ هَكَذَا رَأَيْت فِي نُسْخَتَيْنِ مِنْهُ وَاخْتَصَرَهُ الْقَرَافِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْجَلَّابِ كَذَلِكَ فَقَالَ: يُسَلِّمُ عَلَى يَسَارِهِ. فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُؤَخِّرُ حَتَّى يُسَلِّمَ مَنْ عَلَى يَسَارِهِ، وَمَنْ أَخَّرَ سَلَامَهُ لَمْ يُنْتَظَرْ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ فَصَارَ آخِرُ الْكَلَامِ يُدَافِعُ أَوَّلَهُ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ عَلَى الصَّوَابِ فَقَالَ: هَلْ يُشْتَرَطُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْيَسَارِ التَّأَخُّرُ حَتَّى يُسَلِّمَ مَنْ عَلَى الْيَسَارِ؟ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّالِثُ) قَالَ فِي الطِّرَازِ: لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَسَارِ الْمَأْمُومِ أَحَدٌ فَظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ يَعْنِي كَلَامَ الْمُدَوَّنَةِ السَّابِقَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ الْمَأْمُومُ عَلَى يَسَارِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَنَقَلَهُ التِّلِمْسَانِيُّ وَالْقَرَافِيُّ فِي شَرْحِ الْجَلَّابِ وَالذَّخِيرَةِ.
(قُلْت) وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ يُقَوِّي الْقَوْلَ الَّذِي يَقُولُ بِتَقْدِيمِ الرَّدِّ عَلَى الْيَسَارِ عَلَى الرَّدِّ عَلَى الْإِمَامِ وَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّخْيِيرِ أَيْضًا فَتَأَمَّلْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الرَّابِعُ) قَالَ فِي الطِّرَازِ: إذَا قُلْنَا بِالْمَشْهُورِ: إنَّهُ لَا يُسَلِّمُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى يَسَارِهِ أَحَدٌ فَلَوْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ مَسْبُوقٌ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ سَلَامَهُ مُتَأَخِّرٌ وَلَيْسَ هُوَ مَحِلُّهُ حَتَّى يُقَامَ مَحِلُّهُ مَقَامَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يَرُدُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ سَلَامَهُ لَا بُدَّ مِنْهُ وَإِنْ تَأَخَّرَ لِعُذْرٍ فَلْيُقِمْ مَنْ يَلِيهِ السَّلَامَ عَلَى سُنَّتِهِ، وَلَيْسَ مَقْصُودُ الرَّدِّ الْجَوَابَ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ اعْتِبَارُ التَّسْلِيمِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ كَمَا يَقُولُ الْمُخَالِفُ وَإِنَّمَا التَّسْلِيمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا شُرِّعَ الرَّدُّ لِهَيْئَةِ الْمُصَلِّي وَتَشْبِيهًا بِالْمُسْلِمِينَ فَصَارَ فِي نَفْسِهِ يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِ الْمُصَلِّينَ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، حَتَّى يَرُدَّ عَلَى مَنْ لَمْ يَقْصِدْ السَّلَامَ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْنَثُ بِذَلِكَ انْتَهَى. وَنَقَلَهُ التِّلِمْسَانِيُّ وَالْقَرَافِيُّ فِي شَرْحِ الْجَلَّابِ وَالذَّخِيرَةِ بِاخْتِصَارٍ وَنَصُّ كَلَامِهِ فِي شَرْحِ الْجَلَّابِ: فَإِنْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ مَسْبُوقٌ قَالَ سَنَدٌ: يُحْتَمَلُ عَدَمُ الرَّدِّ لِتَأْخِيرِ سَلَامِهِ وَيُحْتَمَلُ الرَّدُّ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ وَفِيهِ مِيلٌ إلَى تَرْجِيحِ السَّلَامِ عَلَى الْيَسَارِ إذَا كَانَ فِيهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute