للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في الكتاب ليصلحه من بعده، وسبيل الجائين من بعده البناء على رسمه، والوقوف عند حكمه، ومن زعم أن عثمان أراد بقوله أرى فيه لحنًا، أرى في خطه لحنًا إذا أقمناه بألسنتنا كان لحن الخط غير مفسد ولا محرف من جهة تحريف الألفاظ وإفساد الإعراب فقد أبطل ولم يصب؛ لأن الخط منبئ عن النطق، فمن لحن في كَتْبِهِ فهو لاحن في نطقه، ولم يكن عثمان ليؤخر فسادًا في هجاء ألفاظ القرآن من جهة كَتْبٍ ولا نطقٍ، ومعلوم أنه كان مواصلًا لدرس القرآن متقنًا لألفاظه، موافقًا على ما

رسم في المصاحف المنفذة إلى الأمصار والنواحي، ثم أيد ذلك بما أخرجه أبو عبيد قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الله بن مبارك، حدثنا أبو وائل شيخ من أهل اليمن، عن هانئ البربري، مولى عثمان قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبي بن كعب فيها: (لم يتسن)، وفيها: (لا تبديل للخلق)، وفيها: (فأمهل الكافرين)، قال: فدعا بالدواة فمحا أحد اللامين فكتب لخلق الله، ومحى فأمهل، وكتب فمهل، وكتب لم يتسنه، ألحق فيها الهاء.

قال ابن الأنباري (ت: ٣٢٨ هـ) - رحمه الله -:

فكيف يدعى عليه أنه رأى فسادًا فأمضاه وهو يوقف على ما كتب ويرفع الخلاف إليه الواقع من الناسخين ليحكم بالحق ويلزمهم إثبات الصواب وتخليده انتهى.

قلت: (السيوطي) ويؤيد هذا أيضًا ما أخرجه ابن أشته في المصاحف قال: حدثنا الحسن بن عثمان، أنبأنا الربيع بن بدر، عن سوار بن شبيب قال: سألت ابن الزبير عن المصاحف فقال: قام رجل إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين! إن الناس قد اختلفوا في القرآن! فكان عمر قد هم أن ي على قراءة واحدة، فطعن طعنته التي مات بها، فلما كان في خلافة عثمان قام ذلك الرجل فذكر له، فجمع عثمان المصاحف، ثم بعثني إلى عائشة، فجئت بالصحف فعرضناها عليها حتى قومناها، ثم أمر بسائرها فشققت.

فهذا يدل على أنهم ضبطوها وأتقنوها ولم يتركوا فيها ما يحتاج إلى إصلاح ولا تقويم. (١)

وأما الجانب الرابع: فمن جانب قول عثمان- رضي الله عنه- لَمَّا فُرِغ من كتابة المصحف:

"أرى شيئًا مِن لحنٍ ستقيمه العربُ بألسِنتِها"، وقد علَّق الأئمة على ذلك فقالوا:

"لو كان فيه لحن لا يجوز في كلام العرب جميعًا لما استجاز أن يبعث إلى قوم يقرؤونه". (٢)

وإنَّ هذا لقولٌ قاطعٌ كلَّ قول، يصحُّ فيه المثَل القائل: (قطعَت جَهيزةُ قولَ كلِّ خطيبِ) (٣)، إذ ليس معقولًا ولا منطقيًّا أن يَرى عثمانُ-رضي الله عنه- في القرآن خطأً نحويًّا أو صرفيًّا، فلا


(١) - نقله عن ابن الأنباري وعلق عليه السيوطي في الإتقان: (ص/ ١٢٤١ - ١٢٤٧).
(٢) الدر المنثور: (٢/ ٢٤٦). بتصرف يسير.
(٣) وهو مثل عربي أصْلُهُ أنَّ قَومًا اجتَمَعوا يَتَشاوَرونَ في صُلحٍ بَينَ حَيّينِ، قَتلَ أحدُهُما مِن الآخَر قتيلًا، ويحاولون إقناعَهم بِقَبولِ الدِّية. وبينما هُم في ذلك جاءَت أمَةٌ اسمُها "جهيزة" فَقَالت: إنَّ القاتلَ قَد ظَفِرَ به بعضُ أولياءِ المقتولِ وقتلوه! فَقَالوا عند ذلك: "قَطَعَتْ جهِيزةُ قولَ كلِّ خَطيبٍ". أي: قد استُغنى عَن الخُطَب. ويُضرَبُ هذا المثل لِمن يَقطعُ على النّاسِ ما هُم فيه بأمرٍ مُهمٍ يأتي به. يُنظر: توضيح شواهد جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع: (١٠٣). الباحث.

<<  <   >  >>