للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فَهُنَا قَال: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) [الطور: ٣٤].

فِي أَنَّهُ تَقَوَّلَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ مُحَمَّدٌ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَتَقَوَّلَهُ كَمَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَظْمٍ وَنَثْرٍ، كَانَ هَذَا مُمْكِنًا لِلنَّاسِ، الَّذِينَ هُمْ مِنْ جِنْسِهِ، فَأَمْكَنَ النَّاسَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ.

ثُمَّ إِنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فَقَالَ تَعَالَى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [هود: ١٣].

ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ - أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [يونس: ٣٧ - ٣٨].

فَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرِيَاتٍ هُمْ وَكُلُّ مَنِ اسْتَطَاعُوا مَنْ دُونِ اللَّهِ، ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ هُمْ وَمَنِ اسْتَطَاعُوا، قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) [هود: ١٤].

كَمَا قَالَ: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ) [النساء: ١٦٦].

أَيْ: هُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ، لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُفْتَرًى، كَمَا قَالَ: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ) [يونس: ٣٧].

أَيْ: مَا كَانَ لِأَنْ يُفْتَرَى، يَقُولُ: مَا كَانَ لِيَفْعَلَ هَذَا. فَلَمْ يَنْفِ مُجَرَّدَ فِعْلِهِ، بَلْ نَفَى احْتِمَالَ فِعْلِهِ، وَأَخْبَرَ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَقَعُ، بَلْ يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: مَا يُمْكِنُ، وَلَا يُحْتَمَلُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْتَرَى هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنَّ الَّذِي يَفْتَرِيهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، وَالْمَخْلُوقُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا التَّحَدِّي كَانَ بِمَكَّةَ، فَإِنَّ هَذِهِ السُّوَرَ مَكِّيَّةٌ؛ سُورَةَ يُونُسَ، وَهُودٍ، وَالطُّورِ.

ثُمَّ أَعَادَ التَّحَدِّي فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ فِي (الْبَقَرَةِ) وَهِيَ سُورَةٌ مَدَنِيَّةٌ:

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة: ٢٣].

ثُمَّ قَالَ: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [البقرة: ٢٤].

فَذَكَرَ أَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) [البقرة: ٢٤].

يَقُولُ: إِذَا لَمْ تَفْعَلُوا فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ حَقٌّ، فَخَافُوا اللَّهَ أَنْ تُكَذِّبُوهُ، فَيَحِيقُ بِكُمُ الْعَذَابُ، الَّذِي وَعَدَ بِهِ الْمُكَذِّبِينَ، وَهَذَا دُعَاءٌ إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، بَعْدَ أَنْ دَعَاهُمْ بِالْحِكْمَةِ، وَهُوَ جِدَالُهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.

وَالثَّانِي قَوْلُهُ: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) [البقرة: ٢٤].

<<  <   >  >>