للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَ (لَنْ) لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَثَبَتَ الْخَبَرُ أَنَّهُمْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ، لَا يَأْتُونَ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ كَمَا أَخْبَرَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ فِي سُورَةِ (سُبْحَانَ)، وَهِيَ سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ، افْتَتَحَهَا بِذِكْرِ الْإِسْرَاءِ، وَهُوَ كَانَ بِمَكَّةَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، وَذَكَرَ فِيهَا مِنْ مُخَاطَبَتِهِ لِلْكَفَّارِ بِمَكَّةَ مَا يُبَيِّنُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء: ٨٨] فَعَمَّ بِالْخَبَرِ جَمِيعَ الْخَلْقِ مُعْجِزًا لَهُمْ، قَاطِعًا بِأَنَّهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ، لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ، وَلَوْ تَظَاهَرُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا التَّحَدِّي وَالدُّعَاءُ هُوَ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، وَهَذَا قَدْ سَمِعَهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَ الْقُرْآنَ وَعَرَفَهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَعَلِمَ - مَعَ ذَلِكَ - أَنَّهُمْ لَمْ يُعَارِضُوهُ، وَلَا أَتَوْا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَمِنْ حِينِ بُعِثَ، وَإِلَى الْيَوْمِ، الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، مَعَ مَا عُلِمَ مِنْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وَلَمَّا بُعِثَ إِنَّمَا تَبِعَهُ قَلِيلٌ.

وَكَانَ الْكُفَّارُ مِنْ أَحْرَصِ النَّاسِ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِهِ، مُجْتَهِدِينَ بِكُلِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُ، تَارَةً يَذْهَبُونَ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فَيَسْأَلُونَهُمْ عَنْ أُمُورٍ مِنَ الْغَيْبِ، حَتَّى يَسْأَلُوهُ عَنْهَا، كَمَا سَأَلُوهُ عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَأَهْلِ الْكَهْفِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ. وَتَارَةً يَجْتَمِعُونَ فِي مَجْمَعٍ بَعْدَ مَجْمَعٍ عَلَى مَا يَقُولُونَهُ فِيهِ، وَصَارُوا يَضْرِبُونَ لَهُ الْأَمْثَالَ، فَيُشَبِّهُونَهُ بِمَنْ لَيْسَ مِثْلَهُ لِمُجَرَّدِ شَبَهٍ مَا مَعَ ظُهُورِ الْفَرْقِ. فَتَارَةً يَقُولُونَ: مَجْنُونٌ. وَتَارَةً يَقُولُونَ: سَاحِرٌ. وَتَارَةً يَقُولُونَ: كَاهِنٌ. وَتَارَةً يَقُولُونَ: شَاعِرٌ … إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَعْلَمُونَ - هُمْ وَكُلُّ عَاقِلٍ سَمِعَهَا - أَنَّهَا افْتِرَاءٌ عَلَيْهِ.

فَإِذَا كَانَ قَدْ تَحَدَّاهُمْ بِالْمُعَارَضَةِ - مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ - وَهِيَ تُبْطِلُ دَعْوَتُهُ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهَا لَفَعَلُوهَا، فَإِنَّهُ مَعَ وُجُودِ هَذَا الدَّاعِي التَّامِّ الْمُؤَكَّدِ إِذَا كَانَتِ الْقُدْرَةُ حَاصِلَةً، وَجَبَ وُجُودُ الْمَقْدُورِ، ثُمَّ هَكَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ.

فَهَذَا الْقَدْرُ يُوجِبُ عِلْمًا بَيِّنًا لِكُلِّ أَحَدٍ بِعَجْزِ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ بِحِيلَةٍ، وَبِغَيْرِ حِيلَةٍ. وَهَذَا أَبْلَغُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي يُكَرَّرُ جِنْسُهَا كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِنَظِيرِهِ، وَكَوْنُ الْقُرْآنِ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ لَيْسَ هُوَ مِنْ جِهَةِ فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ فَقَطْ، أَوْ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ فَقَطْ، وَلَا مِنْ جِهَةِ إِخْبَارِهِ بِالْغَيْبِ فَقَطْ، وَلَا مِنْ جِهَةِ صَرْفِ الدَّوَاعِي عَنْ مُعَارَضَتِهِ فَقَطْ، وَلَا مِنْ جِهَةِ

سَلْبِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى مُعَارَضَتِهِ فَقَطْ (١)، بَلْ هُوَ آيَةٌ بَيِّنَةٌ مُعْجِزَةٌ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَمِنْ جِهَةِ النَّظْمِ، وَمِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى، وَمِنْ جِهَةِ مَعَانِيهِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.


(١) شيخ الإسلام لا يقول بالصرفة، بل له أقوال واضحة في نفيها نفيًا باتًا، وإنما ذكرها هنا على سبيل التَّقْدِيرِ وَالتَّنْزِيلِ فقط، فلينتبه، وسيأتي كلامه بعد قليل يؤكد ذلك، وقد ذكر الباحث ذلك في كتابيه: "منهاج المفسرين"، وفي: "جنى الخُرْفة في إبطال القول بالصرفة"، والحمد لله.

<<  <   >  >>