للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (١٨)} [الجاثية: ١٨]: "ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح، وإنما خالف بينما في الفروع حسبما علمه سبحانه" (١).

وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد؛ الأنبياء إخوة لعلات، وإن أولى الناس بابن مريم لأنا، إنه ليس بيني وبينه نبي"، فالدين واحد، وإنما تنوعت شرائعهم ومناهجهم كما قال -تعالى-: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}. فالرسل متفقون في الدين الجامع للأصول الاعتقادية والعملية، فالاعتقادية كالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر، والعملية كالأعمال العامة المذكورة في الأنعام والأعراف وسورة بني إسرائيل كقوله -تعالى-: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلي آخر الآيات الثلاث. وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إلي آخر الوصايا. وقوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٣)}. فهذه الأمور هي من الدين الذي اتفقت عليه الشرائع كعامة ما في السور المكية فإن السور المكية تضمنت الأصول التي اتفقت عليها رسل الله؛ إذ كان الخطاب فيها يتضمن الدعوة لمن لا يقر بأصل الرسالة" (٢).

وليس في هذا التغير في الشرائع دليل لأصحاب مقولة الظواهر الاجتماعية، فإن تغيير الشرائع في دين الأنبياء يكون من رب العالمين، فينسخ الله ما شاء سبحانه ويثبت ما شاء، أما أصحاب الظواهر الاجتماعية فيصدق كلامهم على الأديان المحرفة والأديان المخترعة وعلى البدع، فالتحريف والابتداع والاختراع هو من عمل البشر، وتنسب هذه الأديان لهم، قال -تعالى-: {لَكُمْ


(١) تفسير القرطبي، الأول ٦/ ٢١١، والثاني، ١٦/ ١٦٤.
(٢) الفتاوى، ١٥/ ١٥٩ - ١٦٠، وحديث أبي هريرة عند البخاري برقم (٣٤٤٢) كتاب حديث الأنبياء باب قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ}. وانظر له أيضًا كلامًا مهمًا حول هذا الموضوع في الفتاوى: فصل في توحد الملة وتعدد الشرائع وتنوعها وتوحد الدين الملي دون الشرعي وما في ذلك من إقرار ونسخ وجريان ذلك في أهل الشريعة الواحدة. . . .، وتسمى (قاعدة في توحيد الملة وتعدد الشرائع)، ١٩/ ١٠٦ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>