نطيل الحديث عن العلمانية ونكتفي ببيان أثرها في مسيرة العلم الحديث، ولاسيّما بعد أن صُوّرت كسند للعلم بخلاف الكنيسة التي صورت كعدوٍ له، ووجدت فرصتها الكبيرة في استثمار العلم بل في إعادة صياغته عبر صياغتها للمجتمع ككل بحيث يتحول العلم إلى علم علماني، وهذا التحليل هو الوجه النقدي للعرض التاريخي الذي سبق في الفصل الأول.
أبدأ بذكر العلاقة المشبوهة بين الكنيسة والسلطة في إرهاق الناس، واستثمار خصوم الكنيسة لذلك من أصحاب الدعوات العلمانية، ولكن الغريب أن الدراسات تُظهر فقط مشكلة الكنيسة وتسكت عن حليفتها السلطة، مع أنهما سواء في مشكلة التعامل مع العلم. يأتي بعدها تحول الطرح العلماني من فصل بين الدين والعلم إلى تحوّل العلمانية كرؤية مادية تحكم توجه العلم الجديد، وابتعاد السلطة عن الكنيسة وتحولها إلى سند للعلمنة بعد أن نجحت العلمنة في اختراقها، ومن ثم تحرك العلم بعيدًا عن الدين في الجوّ العلمي الجديد.
[أ- العلاقة المشبوهة]
كانت العلاقة بين الكنيسة والدولة علاقة وثيقة، كل طرف يوفر الدعم للطرف الآخر، والطرفان كانا ضد الحركة العلمية الجديدة لما تمثله من تهديد لمصالحهما، ومع ذلك فأغلب الكتابات تركز على رمي التهمة على الكنيسة، وتغفل أثر الدولة والسلطات السياسية. وإذا عدنا لبداية الصراع لا نجده فقط بين الدين والعلم -على أن الدين هنا هو الكنيسة-؛ بل هو في الحقيقة بين الدولة ذات المصالح والأهواء، والكنيسة الغارقة في مصالحها وأهوائها، فتضافرت أهواء الطرفين واتحدت القوة السياسية مع الكنيسة، ومع ذلك فقد أُغفل أثر السلطة لما يعنيه ذلك من تحميل التهمة لممثلي الدين فقط. صحيح أن الكنيسة قامت فعلًا بوضع الحجج الدينية والعقلية المانعة من التفكير العلمي الحر والانفتاح العقلي المثمر، لكن لا يعني ذلك اقتناعها بما تقدم من حجج بقدر ما هي المصلحة الميكافيلية التي لجأت إليها من أجل التعاون مع السلطات في إقصاء القوى الجديدة المعارضة أساسًا للدولة وللأنظمة السياسية.
لقد كانت الكنيسة الذراع الثقافية للأنظمة السياسية الفاسدة المخولة بتقديم حجج الاتهام العلمية ضد المخالفين، لاسيّما وأغلب المتأثرين بالثورة العلمية