للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أ- تحولات في الفيزياء "أشياء صغيرة تدفع العلم نحو التواضع"]

كان "ديكارت" -أحد مؤسسي الفكر الغربي الحديث- يرى بأن الرياضيات هي معيار الحقيقة، وقضاياها صادقة لا تحتمل الخطأ، إلا أن مشكلتها هي عدم تناسبها مع الواقع الطبيعي دائمًا، وصوريتها المفرطة مما جعلها أنسب للتيارات المثالية، ولهذا قلل من قيمتها التيار التجريبي.

وقد وجد التيار التجريبي والمادي في تطور الفيزياء مع "جاليليو" و"نيوتن" ضالته فأصبحت فيزياء نيوتن المقياس الأنسب للحقائق الواقعية، ومثلت دعمًا كبيرًا للاتجاه المادي الذي ظهر في القرن (١٢ هـ- ١٨ م) وما بعده، وبقيت كذلك أكثر من قرنين.

ورأى الكثير في القرن (١٣ هـ - ١٩ م) -عصر الوضعية- بأن العلم سيكون البديل الأمثل لبيان الحقائق، وأن أثر الدين أو الميتافيزيقا أو غيرهما قد انتهى (١)، وأن مقاييس العلم هي المقاييس "الصحيحة" ومناهجه هي الوحيدة الجديرة بالاحترام والقبول.

وهكذا أصبح المقبول في باب الحقائق هو ما تقبله الصورة النيوتنية للعلم سواء قال ذلك نيوتن أو مما بُني على نظرياته، والمرفوض هو ما لا تقبله. وأصبحت المفاهيم الفيزيائية النيوتنية لا يعتريها الخطأ أو الوهم أو النسبية، وكان من أهم مفاهيمها القول بالأثير وهو ماده تملأ الكون ثابتة، مستدلًا على ذلك بأن الضوء من طبيعة موجية، ولابد من مادة ينتقل عبرها، فكان المقترح لهذه المادة هو مفهوم الأثير، ويعد مقياسًا تقاس بواسطته حركة الأشياء، ويتبع ذلك تصوره لوجود الزمان المطلق والمكان المطلق وغير ذلك من المفاهيم المرتبطة بمفهوم الأثير.

وخرجت تلك المفاهيم من دائرة الفيزياء والعلوم الطبيعية إلى دائرة الفكر والفلسفة والمذاهب الأيديولوجية، حيث شُيّدت على تلك الفرضيات العلمية مذاهب فكرية ينزع أغلبها نحو الإلحاد والمادية وإقصاء الأصول الدينية، وبلغت ذروتها في النزعة العلموية والمذهب الوضعي في المنتصف الأول من القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، والمذهب الماركسي والداروني في نصفه الثاني "الثالث عشر الهجري" مع تيار إلحادي ومادي، من هنا وهناك سبق ذكر بعضها في أثناء الحديث


(١) انظر: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد. . ص ٥٠٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>