للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وليس بسبب كونه نقليًا أو عقليًا أو علميًا. وأما إن أريد به أن أحدهما قطعي، فالقطعي هو المقدم مطلقًا، وإذا قُدر أن العقلي أو العلمي الحسي هو القطعي كان تقديمه لكونه قطعيًا لا لكونه عقليًا أو عمليًا حسيًا، وبهذا يُعلم أن تقديم العقلي مطلقًا خطأ أو العلمي الحسي كذلك، كما أن جعل جهة الترجيح كونه عقليًا أو علميًا حسيًا خطأ أيضًا (١). قال ابن القيم -رحمه الله- بعد ذكره للأقسام الثلاثة: "فهذا تقسيم متفق على مضمونه بين العقلاء. فأما إثبات التعارض بين الدليل العقلي والسمعي والجزم بتقديم العقلي مطلقًا، فخطأ واضح معلوم الفساد عند العقلاء" (٢).

وهو الذي يُرفع به التوهم، فإن جاء شيء من العلم فلا يُقدم بإطلاق، وإنما يُنظر فيه هل هو قطعي أو ظني، ثم يُنظر فيما يتوهم معارضته من الدين هل هو قطعي أو ظني، فلا يمكن وجودهما في التعارض القطعي، وإن جاء أحدهما قطعيًا قُدم لأنه قطعي، وإن كانا ظنيين انتقلنا إلى الترجيح بينهما. وقد يظن من يجهل حقيقة الدين أن في مثل هذا التقسيم شيء من تقليل شأن الدين (٣)، والحقيقة أن هذا من تعظيم الدين، فالكلام هنا ليس عن الدين أو العلم، وإنما هو عن أدلة ومسائل توجد فيهما، وإلا فالمقدم هنا هو الدين مطلقًا وهو الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولكن إذا جاءت أدلة ومسائل توَهم المتوهمُ فيها تعارضًا، فإن الدين يأمر أصحابه بالعلم والبرهان وتقديم الحق على غيره، وهذا التقسيم الذي ذكره أهل السنة هو الذي يستقيم به الأمر.

ثالثًا: "موضوعات الغيب وموضوعات الشهادة - الأكثر إشكالًا":

يرتفع الكثير من الإشكال بالأصلين السابقين؛ أي: بتجاوز "التعميم والإجمال" أولًا، فهما مظنة الالتباس، ثم بالاعتماد على القطعي دون القول بأنه


(١) ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الدعوى بين الدليل النقلي والدليل العقلي، وقد أضفت ما هو عند طائفة من المعاصرين أعلى من العقل وهو العلم، انظر: درء التعارض ١/ ٧٩ - ٨٠، ١/ ٨٦ - ٨٧.
(٢) انظر: الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، ابن القيم ٣/ ٧٩٧ - ٧٩٨.
(٣) قارن كلام الشيخ عبد الرحمن المحمود في كتابه موقف ابن تيمية من الأشاعرة ٢/ ٨٢٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>