واستمر ذلك حتى وقعت المستجدات الحديثة، وما تبع ذلك من الافتتان بالغرب الحديث، ومن ثم ظهور طائفة متغربة تقلد تيارات الفكر الغربي، ومن ذلك تقليدهم في مصدر المعرفة. ومن المعلوم أن مصدرية الوحي قد تعرضت في الغرب لنقد شديد، وقد حقق ذلك النقد نجاحًا خطيرًا، تسبب في التشكيك بمكانة الوحي عمومًا، ومما ساعد النقاد في نقدهم الصدام الكبير الذي وقع بين الكنيسة والمكتشفات العلمية الجديدة، فقد كانت الكنيسة تدّعي أن المعرفة الصائبة هي في الكتاب المقدس بينما أصحاب المعرفة الجديدة قد أعلنوا اكتشافات تخالف هذا الكتاب، ومع الأيام تحقق للناس صحة الكثير مما قدمه العلم مما حملهم على الشك في الوحي، وقد أسهم التحريف الذي وقع من الأحبار والرهبان في زيادة القناعة عند الناس بصدق المعارضين للوحي، ثم تعزز ذلك بالنقد التاريخي الذي قامت به شخصيات مختلفة لتلك الكتب المقدسة، ثم وقع الهجر الكبير لكتبهم المقدسة مع نجاح العلمنة في فرض رؤيتها على واقع الحياة في الغرب، ومن ثمّ الهجر النهائي لكتبهم المقدسة كمصدر للمعرفة، وقد سبق العرض التاريخي لهذه الأحداث والآثار المنهجية لها في المبحثين الأول والثاني من الباب الأول.
وقد انساق المتغربون مع هذه الموجة الغربية، دون تفريق بين المختلفات، فانحرفوا في باب مصدر المعرفة، فأهملوا الوحي، وخلطوا في ذلك بين الحق والباطل. وهذا المبحث ينظر في هذه المشكلة التغريبية ولاسيّما أنها تغطيها بدعاوى العلمية، وقبل مناقشة ذلك لابد من التفريق بين مصدر يكون للدين ومصدر يكون للعلوم الدنيوية، فإذا كان الأول محصورًا في الوحي فإن العلوم الدنيوية متروكة للجهد البشري، والنظر في النافع منها وَفْق مصادرها التي بثّها الله في الآفاق وفي الأنفس، في الحس وفي العقل وفي المركَّب منهما، شريطة الحركة في الإطار الإِسلامي للمعرفة، وهنا وقفة مع مصدر المعرفة غير الدينية.
[مصدر العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية]
أصبح للمنهج شأنه في الفكر الحديث، وظهرت ثماره جلية في العلوم التجريبية، وأصبح لكل فرع من فروع العلم منهجه، وكل عاقل يعلم أهمية المنهج وفائدته للعلم، ويبقى المُشْكل أن المعرفة لابد لها من مصدر تؤخذ منه