للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السياسي. ." (١)، فمن وقع من العلماء -وهم كثر- في أسرها لم يسلم من هذه الأبعاد المختلفة للعلمانية، ويظهر ذلك في نجاح العلمانية في توجيهها للنشاط العلمي لكي يقدّم تفسيرًا يختلف عن التصور الديني وربما يتعارض معه. فوجه العلمانية المعرفي الكالح النازع إلى استبعاد كل ما هو خارج الطبيعة المادية قد سيطر على العلماء المحدثين؛ مما دفعهم إلى النفور من كل تفسير يُلمس منه إيجاد صلة بين ظواهر الطبيعة وعالم الغيب، وبلغ ذروته كما رأينا في الفصل الأول إلى قول أحد أبرز علماء الغرب -لابلاس- عن علاقة الرب سبحانه بنظامه الكوني المقترح بأن تلك فرضية لا حاجة إليها. ومع نفورهم من التفسيرات الدينية فهم لا يمانعون من طرح تفسيرات جديدة حتى وإن اختلفت مع التفسيرات الدينية، مثل ما يطرحونه حول وجود العالم المادي، متى وجد وكيف وجد؟ أو عن وجود الحياة في هذا العالم، متى وجدت وكيف وجدت؟

[ج - ظهور الدولة العلمانية القومية, وأثرها في الانحراف بمسيرة العلم]

ذهبت العلمانية خطوة أبعد بعد نجاحها في الوصول إلى السلطة بعد الثورة الفرنسية وقيام أنظمة سياسية علمانية، ومن ثمّ احتكار مؤسسات العلم والعلوم ومنع التصور الديني من الوصول إليها، ووضعها داخل أسوار قوية لا تسمح بدخول أي مفهوم ديني داخل أسوار تلك المؤسسات، فقد حرصت الأنظمة العلمانية الجديدة على علمنة العلم وعلمنة مؤسساته ومنع الدين من الاقتراب من تلك المؤسسات أو تلك المعارف، وكانت أوضح الصور في بلدين من بلدان أوروبا وهما (٢): فرنسا معقل أول علمانية حديثة، إلا أنها سمحت بالوجود الديني على هامش المجتمع والأكثرية من العوام لا شأن لهم في مسار الحياة، والبلد الثاني الاتحاد السوفيتي الذي سار بالعلمانية إلى مداها الأقصى، فحارب الدين ورفض الاعتراف به، ودعا إلى ما أسماه بالإلحاد العلمي. أما بقية الدول الأوروبية فهي وإن لم تصادم الكنيسة بعنف كحال التجربتين الفرنسية والسوفيتية إلا أنها كانت عمليًا وبصورة أدهى تطبق العلمانية بحذافيرها.

عندما قامت العلمانية قامت ضدّ الثنائية الطاغية القديمة بين الكنيسة


(١) انظر: العلمانية من منظور مختلف، العظمة ص ٣٧.
(٢) انظر: المرجع السابق، العظمة ص ٣٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>