[أ - طبيعة النظرية العلمية وحدودها "طبيعة المعرفة العلمية وحدودها"]
لنتذكر في هذه اللحظة خط سير الفكر الغربي حول موضوع العلم، فقد كانت البداية مع الثورة العلمية، وكان أغلب رموزها من غير الملحدين؛ بل منهم من كان من خريجي المدارس الكنسية، واعتنى أهم رموزها بالتوفيق بين نظرياتهم والدين. وبسبب أوضاع تاريخية أوروبية غربية؛ انحرف مسار الفكر العلمي مع تيارات كثيرة، وأصبحت الفكرة السائدة بأن العلم يمثل التطور الحقيقي للبشرية بخلاف الدين والميتافيزيقا، ومن هنا أُبرزت ضرورة القطيعة التامة والجذرية بين الدين والعلم، ومع الأيام اتسعت القطيعة والانفصال بينهما مع تعبئة الاتجاه العلمي بكراهية شديدة للدين وقضاياه لدرجة أن أصبح العلم رديفًا للإلحاد عند الكثير، وأن العلم هو الدين الجديد والبديل عن الدين الموروث وعن الميتافيزيقا، وأن العلم مع العقل قادر على الإجابة عن كل الأسئلة وحلّ كل المشكلات.
ولكن بنهايات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر حدثت تطورات كبيرة، كان منها ما توجّه إلى العلم لتفحص حقيقة حدود تلك القدرات المزعومة له. ومنها ما توجه إلى العقل ذاته للبحث في معناه، وفي قدراته على مشاركة العلم أو قيادة العلم نحو ما يكفل التقدم والتطور. وقد كانت هذه الوقفة الغربية مع العلم أو العقل متعبة وقاسية قادت الكثير من الواقفين إلى الشك في قدراتهما ومحاولة إعطاء تصور جديد لمعناهما وحدودهما.
ففيما يخص العقلانية الغربية نجد هجومًا قاسيًا ضدّها وانقلابًا كبيرًا عليها، وبحسب تعبير أحد الراصدين للفكر الغربي وعقلانيته؛ فقد ختم تلك المسيرة العقلانية بالقرن الرابع عشر/ العشرين معنونًا لها بـ"الهجوم ضد العقل" و"نزعة العداء للعقل"(١) وهي نزعة تكاد تغلب على مذاهب القرن الرابع عشر/ العشرين. وهذه النزعة ضد العقل والداعية إلى الزهد فيه ميدانها الدراسات الخاصة بالفكر والفلسفة، أما ما يناسب بابنا فهو الحديث عن نوع آخر من وقفة الفكر الغربي
(١) هو "كرين برينتون" في كتابه (تشكيل العقل الحديث) الذي خصصه لمتابعة هذه العقلانية منذ عصر النهضة، مستعرضًا ذلك في خط تصاعدي إلى نهاية التاسع عشر، وعندما وصل للقرن العشرين عنونه بـ (الهجوم ضد العقل)، انظر: الفصل السابع والثامن.