العملية على العقل ثم تحولت إلى العلم، فالعلمانية هي رؤية للحياة مغايرة للرؤية الدينية، وبما أن الحياة هي الحركة والعمل والقول؛ فقد قامت العلمانية بإقصاء الدين وكل تنظيماته للحياة، وفتحت الباب للعقول لتُشرّع لهذه الحياة، وقد كان هذا سائدًا في دعوات العلمانيين في عصر التنوير، ثم تحول في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر للوضعية التي تعني في جانب منها العلمية، فقيل: إن الدور يكون هنا للعلم، والعلم هنا هو العلوم الاجتماعية المعلمنة، وقد برز ذلك مع منتصف القرن الثالث عشر / التاسع عشر وهو السائد إلى الآن، وهناك جهود لترسيخ علمية الاجتماعيات وتأكيد السير في علميتها، وهو جهد حسن؛ لأنها من وجهة نظر إسلامية لو سارت السير الصحيح لاتفقت نتائجها مع الدين؛ لأن الحق في الخبريات والطلبيات واحد، ولكن هذه العلوم تأثرت كثيرًا بمشكلة العلمنة، مما جعلها تهرب من الدين وتنفر منه وترفضه كمصدر للمعرفة وتحيل البشر للمجهول، وهذا أكبر عائق للعلمية وأكبر مفسد لها.
ومن الملاحظ وجود فرق غريب بين الأمر في الغرب وبين المتغربين؛ ففي الغرب نشاط علمي دنيوي لاهث لا يقف، ويريد بعض أهله تأسيس حياتهم على هذا العلم بعد أن فقدوا ثقتهم في الدين، ولكن هذا غير موجود في المتغربين، فما عندهم هو محض التقليد، فأغلب من عُرف عنهم العناية بالعلم الحديث من المسلمين لم يعرف عنهم حرص على التغريب وعلمنة العلم واصطناع عداوة بين الدين والعلم الحديث، بخلاف البعيدين عن العلم والمنشغلين بالفلسفة والآداب والفنون، فتجدهم أحرص على العلمنة دون أن يكون فيهم علماء في العلوم البشرية في الغالب.
[الأصل الرابع: النسبية]
تأتي النسبية ضمن الأصول الموجهة لهذا الميدان، وهي تأتي كنتيجة منطقية لعلمنة الحياة العملية وفصلها عن أي مصدر كامل وثابت، وتأتي كنتيجة منطقية أيضًا لتحويل الجانب العملي الديني إلى ظواهر اجتماعية يصدق فيها ما يصدق في كل الظواهر الاجتماعية، فهي ظواهر كما يقولون أنتجها الإنسان أو المجتمع أو الطبيعة، إنها عندهم من الأرض وليست من رب العالمين، دون تفريق بين أديان الباطل ودين الحق، وهنا تصبح النسبية مفهومًا متوافقًا مع أرضيّة الظواهر وعلمنة العمل.