إقراره بمسلمات الدين (١). وبهذا حوّلوا العلم من دوره الشريف في نفع البشر، بل أهم من ذلك في هداية البشرية لمعرفة خالقها؛ إلى خدمة الدعاوى الإلحادية، وهذا التحويل وآثاره الخبيثة نجد توضيحها في الأسطر القادمة بإذن الله.
[ب - التطور العلمي والتوسع في التصورات المادية]
منذ ظهور الثورة العلمية وما لحقها من نجاحات علمية والمذهب المادي عبر رموزه يعلن ويكرر بأنه الابن الشرعي للعلوم، ويدعي أيضًا أنه القادر في الوقت نفسه على فهمها ورعايتها وتوجيهها، ثم بدأ ينبّش في تلك العلوم باحثًا عن أدلة صدق دعواه، ولم يكتف أصحاب المادية بهذه الدعوى؛ ولكنهم أيضًا جعلوا العلم ماديًا إلحاديًا، فالعلم عندهم كما أنه رديف المادية فهو أيضًا رديف الإلحاد؛ وبقدر ما يحرصون على ربط المادية بالعلم وتعميم نتائج العلم لصالح المادية؛ بقدر ما يجعلونه في الوقت نفسه شاهدًا على بطلان الغيبيات كما يزعمون ودليلًا على عدم وجود الإله وداعمًا حقيقيًا للإلحاد، وبهذين الادعاءين الكبيرين:"أنهم الممثلون للعلم، وأن العلم على أيديهم قد أبطل الدين والربوبية والغيبيات"؛ نجحوا إلى حدٍ بعيدٍ في نشر الإلحاد، وأفسدوا بهما مسيرة العلم.
عندما يكون محور اهتمام العلم مركزًا على الأمور الدينية، فإنه يكبر حجم التصور الديني في حسّ الناس وفي واقعهم، وعندما يكون محور اهتمام العلم هو الأمور الدنيوية أو المادية؛ فإنها تكبر في أعينهم، وعندما يختل التوازن بين العناية بعلوم الدين من جهة وعلوم الدنيا من جهة أخرى تقع إشكالات كبيرة، فأوروبا في عصورها الوسطى اعتنت بالدين الجديد الذي اعتنقته بعد أن خلطته بوثنياتها عن طريق اليهودي المتنصر "بولس" وغيره، فتحول دين التوحيد إلى دين تثليث، وأقامت علومًا كبيرة على هذا الدين المحرف، وخلطته بتركتها اليونانية والرومانية وغيرها من الفلسفات، ولكن لم يتحقق لأوروبا أن عاشت دينًا صحيحًا ولا قامت لها دنيا سعيدة حقيقية، وهي ترى حولها أمة جديدة ذات دين
(١) ذكرت نماذج وأمثلة من ذلك في الفصل الأول ص ٣٠٣.