للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذه النتائج ليواصل المسار مبتعدًا حتى عما يسمى بالدين الطبيعي؛ إذ هم لا يرون حاجة إليه في قرن انتشر فيه الإلحاد بصورة كبيرة تحت غطاء الفكر والعلم. وظهر الانحراف في تيارين كبيرين جديدين امتدادًا لتجريبية المرحلة الماضية وهما المادي والوضعي، والوضعي هو الأقرب صلة بالتجريبية، وقد قام مشروع التيار الوضعي على استبدال الأديان القديمة بدين جديد هو العلم فقط وتخليص هذا الدين الجديد من أي بقايا دينية أو لاهوتية أو غيبية أو ميتافيزيقية أو مثالية إلى آخر القائمة، وإن كان جهدهم الأكبر قد انصب غالبًا على المفاهيم الدينية واللاهوتية، فقد كان الوضعيون كما يقول عالم الفلك الفرنسي المعاصر "دولهاي": "يعتقدون بأن العلم سوف يحل كليًا محل الفكر الديني. . كانوا متحمسين جدًا وواثقين من أنفسهم إلى حد الغرور. ." (١)، وكل هذا يعزز الانحراف بالعلم والفكر العلمي.

[كونت والدعوة الوضعية]

تمت النقلة الخطيرة في الفكر التجريبي الحسي هذه المرّة من فرنسا تاركة أرضها مؤقتًا -إنجلترا- وذلك بعد وقوع الثورة الفرنسية فجاء الفيلسوف الفرنسي "أوجست كونت" ليرسم خطًا جديدًا لمسار التيار، فأعلن أنه يريد تأسيس دين جديد بعد أن حطمت الثورة كل ما سبقها من عقائد وآيديولوجيات وميتافيزيقا، وبما أن العصر هو عصر العلم، فلابد أن يكون هذا البديل علميًا (٢). فقدم مشروعه الخاص بتصنيف العلوم، وأعلن في الوقت نفسه عن الفلسفة الوضعية، على أن الوضعية تعني العلمية.

أهم المزاعم التي جاء بها "كونت" قانون المراحل الثلاث لتطور التاريخ البشري، وهو قانون عام فيما يزعم لابد أن تمّر به كل أمة من الأمم، ويراه قانونًا حتميًا في الوقت نفسه ذا مسار واحد. والحالات الثلاث هي: المرحلة اللاهوتية التي تعدّ عنده مرحلة الأديان، والمرحلة الميتافيزيقية مرحلة الفلسفات التأملية، وأخيرًا المرحلة الوضعية الممثلة لعصر العلم، وكما يقول داعية الوضعية العربي عن أثر "كونت": "وإذن فقد مضى عصر اللاهوت، وانقضى عصر الفلسفة


(١) العلم والإيمان في الغرب الحديث، هاشم صالح ص ٢٩.
(٢) انظر: منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، محمَّد امزيان ص ٤٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>