وهذا يوضح مقدار النزعة المغالية في الانفلات بعد الغلو القديم في الإذعان الأعمى للكنيسة، وهي خصيصة في كل جاهلية أو انحراف أن يتنقل أصحابه من غلو إلى غلو.
ومما يلفت النظر بهذه المناسبة ما نجده عند مجموعة من المثقفين العرب من انسياقهم خلف الأحكام التي يطلقها الغربيون على تاريخهم والمشاعر التي يعبرون بها عن أحداثهم، ومن ذلك مدح عصر النهضة مطلقًا والإعجاب بدورهم في إحياء تراث الإغريق الوثني البوهيمي، وإن كان هذا لا يُستغرب من الكتاب الغربيين لكثرة العلمانيين والملاحدة فيهم؛ لذا يعجبهم مثل هذا المنحى، وإنما الغرابة فيمن انساق خلفهم من المثقفين العرب -بعلم أو بغير علم- في مدح هذا الموقف (١).
[ب- الإصلاح الديني]
وجاءت الضربة الثانية للكنيسة الكاثوليكية عن طريق الانشقاق الكبير الذي أحدثه دعاة الإصلاح الديني، وكان أشهرها ظهور طائفة البروتستانت وميل كثير من الأوروبيين إليها، وكان أهم ما تدعو إليه: العودة للمسيحية البسيطة رغم أنهم لم يخرجوا عن انحرافاتها وإزالة السلطة التي كانت تتمتع بها الكنيسة الكاثوليكية، ونقدهم لبعض عقائدها التي تفرضها على الناس بحجة أنها وحي من السماء.
وقد ثارت ثائرة الكنيسة الكاثوليكية لهذا الحدث، ودارت معارك كبيرة بين الطرفين، كان أشهرها حرب الثلاثين عامًا التي ذهب ضحيتها آلاف البشر، واتهم الكاثوليك لوثرَ وأصحابه بالكفر، وسمّتهم بالمحمديين بدعوى تأثرهم بدعوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان لوثر يتهم خصومه بأنهم على الطريقة الإسلامية، والإسلام عند الطرفين رديف الباطل، ومع أن الإسلام له دوره في التنور الفكري إلا أن ذلك لم يتجاوز تلك الأمور، فقد بقوا على ضلالهم العقدي رغم تحررهم
(١) انظر مثلًا: فلسفة العلم، قنصوه ص ١٣٠، وانظر: الفلسفة الحديثة عرض نقدي، د. كريم متى ص ٨، ١٣، وانظر: مقدمة في علم الاستغراب، حسن حنفي ص ١٧٢، ١٧٩، وحرل الاتهام المتبادل بين الكنائس، انظر: الإسلام والمسيحية، أليكسي جوارفسكي ص ٩٨ - ٩٩، ترجمة خلف الجراد.