مسيرة العلم، فالأنظمة والقوى الحريصة على سلطاتها ومكاسبها كانت تتعرض أكثر من الكنيسة لخطر الفئة العلمية الجديدة الناشئة، وهي فئة بقدر ما اختلفت مع الكنيسة بقدر ما اختلفت مع القوى المسيطرة على المجتمع وربما أكثر.
وربما يفسر لنا هذا التحليل سبب ما نجده عند مجموعة من علمائهم المشهورين من رفض للسلطة الدينية وحاكمية الدين مع عدم رفضهم للدين ذاته، بل يرون في الدين أهمية كبيرة لحياة الناس وأرواحهم، فلو كان الدين يمثل عندهم مشكلة حقيقية ويمثل تعارضًا بينًا مع علومهم لرفضوه كله، ومع ذلك فرواد الثورة العلمية لم يرفضوه؛ ولكنهم رفضوا سلطة رجاله بعد أن عاشوا في ظل طغيانهم وتآمرهم مع القوى المسيطرة، ورفضوا سلطتهم بعد أن خذلوهم في صراعهم ضد الجهل والتخلف وساندوا خصومهم عليهم، ولا شك أن تلك كانت جناية كبيرة لرجال الدين النصراني أساءت كثيرًا في تصورات الناس حول أهمية شمولية الدين لحياة الناس.
ب - الحل العلماني من كونه فصلًا إلى كونه رؤية:
كان الحل للمشكلة الذي تلوكه ألسنة المثقفين والعلماء ويظهر في كتابتهم يتمثل بالفصل بين النشاط العلمي وبين السلطات السياسية والكنسية، وقد كان الحل مطروحًا قبل تبلور مصطلح العلمانية الذي عُبّر به فيما بعد عن ذلك الطرح.
مصطلح الفصل مصطلح مسالم في الظاهر، فكل ما يوحي به على المستوى العلمي هو أن يتحرك العلماء في بحوثهم ومختبراتهم وتجاربهم وتحليلاتهم ونظراتهم خارج السيطرة الكنسية، كما يحدث مثلًا في الصناعات والأعمال الحرفية، ولكن يصعب تخيل هذا الموقف المحايد؛ فالعلم لا يستطيع الحركة دون أن يكون هناك تصورات تظله وأسوار تحميه وأخلاقيات تحيطه وغايات كلية توجهه.
وقد وجد المبغضون للدين فرصتهم الثمينة في إعطاء هذه الأبعاد للعلم بعد أن كان الدين هو الذي يقدم للعلم تلك الأبعاد، وبدأ عملهم تدريجيًا، وبلغ ذروته في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر الميلادي في الطرح الوضعي، وله حديث في فقرة أخرى.