وهذا ما نجده مع مجموعة ممن ارتبط بهذه العلوم من اندفاع نحو الدين والإيمان بحسب ما يجده حوله أو يمليه عليه عقله ووجدانه.
وفقه شمولية الإِسلام يريح البشرية، فهو يريحهم من الحركة في أبواب لا يستطيعونها فيقفون عاجزين أمامها أو منكرين لها دون دليل، فيأتي الوحي بالحديث عنها بما يكفي ويشفي ويريح، ويفتح لهم أبوابًا للحركة، فيتحركون فيها: فيكتشفون ويبدعون، وهذا فيه رد على من يفهم من الشمولية أن فيها تعطيلًا للعقل والعمل الحر والإبداع والابتكار والاكتشاف، فكل شيء بحسب فهمهم للشمولية موجود سلفًا، وهذا لا يصح؛ فإن العقل يعمل في إطار الإِسلام في أبواب الدنيا بما ينفع ويفيد، بل حتى في أبواب الدين فهناك الاجتهاد الذي يُعد من إعمال العقل في المستجدات والتجديد الذي يعد من إعمال العقل في التصحيح، بحيث يكون الاجتهاد للمستجدات والبحث عن إطار إسلامي لها، بينما التجديد هو إزالة ما لحق بالدين من انحراف شوّه صورته وفتح الباب لانتقاصه أو الزهد فيه؛ فيُصفي الدين وينقي ما ابتدعه الناس، وعندما يكون بصفائه يكون قادرًا على الشمولية والكفاية.
[نماذج من الانحراف التغريبي حول هذا الباب]
[النموذج الأول]
إذا عدنا إلى النموذج التغريبي الأول -"الداروني"- الذي ظهر قبيل الاستعمار وانتفش بعد حلوله نجده يُعلن باقتراب نهاية الدين واختفائه وزواله، وأن المساحة التي كان يشغلها الدين سيشغلها العلم ويتكفل بسدّها بحسب زعمهم، والحلّ عند "شميل" مثلًا في العلم، ولكن العلم عنده هو "المذهب الداروني"(١)، ولاسيّما في صورته البوخنرية -نسبة إلى "بوخنر"- وهو مذهب فكري نشأ على هامش العلم وليس علمًا، ومع ذلك فهو يصوره على أنه علم، وأنه البديل الذي يقوم مقام الدين، ومع ما في هذا من تضييق شديد لمفهوم العلم لا يقبله حتى بعض العلمانيين بحيث يصبح الجزئي علاجًا للكلي، ففيه دلالة مَرَضية خطيرة تدفع أصحابها لدخول جحر الضب إن دخله المتبوع.
(١) انظر: الفلسفة النشوئية وأبعادها الاجتماعية. . . .، د. محمود المسلماني ص ٩٧.