للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إطار العلم، وما لا يدخل في إطاره فليس بعلم، ولا يقبل، وهذا أصل فاسد آخر؛ فإنه ليس كل ما لم يدل عليه العلم ليس بعلم؛ لأن الأدلة كما سبق في باب المنهج متنوعة، منها التجريبي الحسي ومنها الاستنباطي ومنها خبر الصادق.

وقد يكابرون بأن العلم وإن لم تتحقق له الشمولية والكفاية -الآن- فإنه في الطريق إليها، ولكن هذا المزعم مع المفكرين الماديين وغيرهم يبطله علماء من دائرة العلم ذاته، ويبطله التفكير الصحيح، فالإنسان يبقى محكومًا بطبيعته ومحكومًا بوظيفته، فأما طبيعته فهي طبيعة أنه مخلوق حادث، ولهذا يبقى إدراكه محدودًا بما تحده به طبيعته. وأما وظيفته فهي وظيفة الخلافة في الأرض لتحقيق معنى العبادة لله، فوُهب من الإدراك ما يناسب هذه الوظيفة (١). وبما أنه محدود فهناك أمور تخرج عن قدرته للإحاطة بها، وإن استطاع بعقله إدراك بعض أمورها، فإن العقل الصحيح يصل إلى أمور من الدين، ولكنه لا يستطيع الإحاطة بها، فإن لم يهتد بالوحي ضلّ فيها؛ ولهذا جاءت الرسالة والنبوة وتنزيل الكتب، فأرسل الله رسله حتى لا يبقى للناس حجة، قال -تعالى-: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٦٥)} [النساء: ١٦٥].

وإن الإنسان في ما أُذِنَ له بالعلم والبحث من أمور المخلوقات ليجهل الكبير، فكيف بما لم يُأذن له به (٢)! بل قد تفتح بعض الاكتشافات عقول المكتشفين إلى مساحات أكبر من العالم المجهول وهم يظنون أن تلك المساحات ستضيق مع تلك الاكتشافات فإذا هي تتسع، وهم أمام مجال مأذون لهم فيه، ومجال محدود بين أيديهم، ويكفي النظر في عالم الذرة، وعالم الخلية، من عالم المادة أو عالم الحياة، لنرى تلك المساحة الهائلة من جهل الإنسان بهما، وهما المحدودان الصغيران الموجودان بين اليدين فكيف الأمر مع قضايا غير محسوسة من أمور المعاني أو من أمور غيبية كبيرة (٣)، وقد كان الأصل للعقلاء أن يدفعهم مثل هذا الأمر إلى الإيمان والتسليم والبحث عن الدين والإيمان،


(١) انظر: المرجع السابق ص ٤٧ - ٤٩.
(٢) انظر: كمؤشر على ذلك كتاب كاريل: (الإنسان ذلك المجهول)، فهو شهادة من ميدان العلم.
(٣) انظر: الفصل الثاني من الباب الثاني، ولاسيّما المبحث الأول.

<<  <  ج: ص:  >  >>