ما سبق جزء من إشكالات النظرية الدارونية، ورغم كونها نظرية تنتمي إلى علم الأحياء، فإنها قد تحولت إلى مذهب فكري، له من يعتقده وينشره ويتأثر به، وهذه إحدى مشكلات العلم في العصر الحديث، فهو لم يعد يتحرك داخل إطاره، بل أصبح مجالًا خصبًا لبناء المذاهب في ظل وجود منظومات نظرية علمية ضبابية مشتبهة تسمح لأهل الأهواء استثمارها لصالح أهوائهم. وهذا الواقع يؤكد أهمية مطلب أسلمة العلوم أو على الأقل تحييدها في الصراعات الفكرية الدائرة، وإذا كان عصرها الحديث يكشف صعوبة الحياد إن لم يكن استحالته فما بقي إلا العناية بإحاطتها بسوار إسلامي يسمح لها بالتطور دون الانحراف.
ولا شك أن التيار العلماني العربي قد أزعجنا بصراخه حول رفضه فكرة أسلمة العلوم ويتذرع بأدلة ظاهرها الصواب ومقصدها التلبيس إذ يقولون: كيف تريدوننا أن نُؤسلم المعادلات الرياضية والكيميائية والقوانين الفيزيائية وغيرها وليس لها علاقة بالدين! ولكن السؤال نقلبه فنقول: هذه العلوم التي تزعمون حياديتها قد تحوّلت إلى مذاهب فكرية واستثمرت في الطعن في أصول دينية، أفتسمحون لها هناك وتمنعون هنا طلب علماء المسلمين بأسلمتها. وهذه قضية سيأتي لها مناقشة خاصة في مكان آخر، وإنما القصد هنا التذكير بعمق المشكلة ومكانها التاريخي؛ لأننا نجد نظرية علمية تنتسب لعلم الأحياء ومع ذلك حوّلها أصحابها إلى مذهب مع الدارونية الاجتماعية واستعانت بها مذاهب فكرية أخرى لتأييد أصولها. يقول "ول ديورانت": "وكما سادت الرياضيات على الفلسفة في القرن السابع عشر وأنجبت للعالم ديكارت وهوبز وسبينوزا وليبنتز وبسكال، وكما أخذ علم النفس يسطر الفلسفة في آراء بركلي وهيوم وكوندلاك وكانت، فقد كان علم الأحياء في القرن التاسع عشر عمود الآراء الفلسفية الفقري في آراء شلنج وشوبنهور وسبنسر ونيتشه وبرجسون"(١). والذي يظهر أنه ما كان لعلم الأحياء أن يكون كذلك لولا الأثر الذي قام به داروين وأتباعه، وتحول داروين إلى أبٍ
(١) قصة الفلسفة، ديورانت ص ٤٥٧، وقد سبق ذكر ملحوظة عن اختلاف الترجمات العربية في ترجمة الأسماء، وأنا أعتمد ما ذكره المترجم دون تغيير.