للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإن كان "داروين" بصفته عالم أحياء ليس من شأنه مناقشة هذه القضايا، فإن شر من تولى أمرها في نهاية القرن طفل داروين -كما عبر بذلك ول ديورانت الذي تأثر كثيرًا بنظريته وهو "نيتشه" "فإذا كانت الحياة هي تنازع البقاء، وبقاء الأصلح، عندئذ تكون القوة هي الفضيلة الأساسية، والضعف هو النقيصة الوحيدة" (١)، ليعلن عدم الحاجة حتى لأخلاق الكنيسة؛ ذلك أن أتباع داروين وغيرهم رغم رفضهم اللاهوت النصراني لكنهم لم يرفضوا أخلاقها، ورغم جرأتهم في الإقلاع عن المذهب الكاثوليكي واللوثري والإنجليكاني، فإنهم لم يقلعوا عن الديانة النصرانية نفسها أي روحها الأخلاقية، فأزال داروين الأساس اللاهوتي لأخلاقها ولكنها بقيت حتى جاء دور "نيتشه" ليزيلها تمامًا (٢)، ويعلن مقولته المشهورة التي دوّت بها أوروبا عن إعلان موت الله ويصل إلى إنكار خلقه وأمره، وإن كان هناك من يرى بأن نيتشه يقصد بمقولته هنا "الله كما صورته الكنيسة". فبعد كل تلك الموجات من العلمنة والمادية ما عاد له خلق، ولا له أمر ينفذ في أرض الواقع، فلماذا تصرّ الكنيسة على إبقائه؟! (٣). كان هذا من أبرز صور التفاعل الخطير بين أشهر نظرية وبين أحد أشهر رموز الفكر في نهايات القرن التاسع عشر وأول العشرين.

أيضًا سيكون لمزاعم داروين العلمية -حول نشأة العقيدة بفعل أثر الطبيعة في الإنسان- امتدادها في العلوم الناشئة بعده، فهذا علم الاجتماع مع دوركايم وغيره، يرى بأن الدين نشأته بأسباب اجتماعية يمكن تفسيرها علميًا، وهذا أحد مؤسسي علم النفس المعاصر فرويد يرى بأن نشأة الدين ترجع إلى أحداث نفسية داخل النفس الإنسانية، وقريبًا من ذلك مزاعم الماركسية حول نشأة الدين بسبب الصراع الطبقي والجدل المادي التاريخي، فالدين عند هؤلاء جميعًا ليس له أصل موضوعي حقيقي تحرف بعد ذلك، وإنما هو ناتج من الطبيعة أو الجدل المادي أو من ظروف اجتماعية أو من اللاشعور، وسيكون لهذه مزيد دراسة في الفصل الثاني من الباب الثالث.


(١) انظر: قصة الفلسفة، ديورانت ص ٥٠٤.
(٢) انظر: قصة الفلسفة، ديورانت ص ٥٠٥ بتصرف.
(٣) انظر: نيتشه عدو المسيح، د. يسري إبراهيم ص ١١١ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>