الخروج عليها، ومن أتى بجديد فلا يقبل منه لما في ذلك من ابتداع ومخالفة للأوائل، فإذا أضيف على ذلك تقديسها وإنزالها منزلة الوحي علم عند ذلك صعوبة إعلان موقف أو رأي جديد، والانتقال من نمط تفكير إلى آخر.
فإذا كانت الكنيسة بهذه المكانة والمنزلة ولها هيبة، ومعارفها لا يرقى إليها أي شك، وقد تحالفت مع الإقطاع والنبلاء والأمراء وتحالفوا معها، ثم يأتي من يضرب ببعض معارفها عرض الحائط، فلا شك أن نجاح مثل هذا يعرضها للانهيار، ومن ثمّ أطلق على أثر كوبرنيكوس ثورة؛ لأنه حطم من جهة علم الفلك القديم، والأهم من ذلك ضربته القاسية التي وجهها للكنيسة، لاسيّما وهو يشكك في معارفها العلمية التي يُحرم التكذيب بها.
٢ - إحراق برونو يُشهر النظرية:
خرج كتاب "كوبرنيكوس" سنة وفاته، ودفن في مقابر القديسين، وسلم من التجريم إلى زمن "جاليليو"، إلا أن من قاد النظرية نحو الصدام مع الكنيسة شخص آخر يُدعى "جيوردانو برونو"(١٥٤٨ - ١٦٠٠ م) الإيطالي، ويعد أبرز فلاسفة عصر النهضة، دخل ديرًا للدومنيكان ثم بعد فترةٍ خلع ثوب الرهبنة، وكان كثير المشاغبة ضد الكنيسة، فيُجرّم مرّة ويعلن توبته أو يهرب. وبقي متنقلًا بين أوروبا يُدرّس علم الفلك والفلسفة الأرسطية، إلا أنه انقلب ضد فلسفة أرسطو وظل يُدافع عن الفلك الجديد وعن حرية الفكر، وسجن أكثر من ست سنين، واتهم بثماني تهم منها التهكم على تجسّد المسيح وعلى القربان الأقدس، ويذكر "يوسف كرم" -وهو يميل للدفاع عن موقف الكنيسة عادة- بأن البابا أصدر "أمره بأن يطلب منه إنكار القضايا المخالفة للعقائد المقررة، دون القضايا المتعلقة بمذهب كوبرنك. فكان هذا التمييز من جانب البابا دليلًا على استعداد الكنيسة لقبول العلم الجديد، قبل تحريم كتاب كوبرنك وإنذار جاليليو بثماني عشرة سنة. . . ."، فرفض "برونو" الإنكار "فحكم عليه بالجرم، وبتسليمه إلى السلطة المدنية "كي يعاقب برفق ودون سفك دم" فأعدم حرقًا بعد أسبوع. ."، وكلام "يوسف كرم" لا يتفق أوله مع آخره؛ فان الكنيسة لو كانت ستقبل علم الفلك الجديد ما وصل الأمر إلى تحريم كتاب كوبرنيكوس وطلبها من جاليليو الاعتذار عن أقواله الفلكية، وكذا فإن تعليقه الختامي يشكك في تلك المقدمة حيث قال في النهاية: "ومهما يكن من أمر إحراقه -وكان منهاج العصر يحتمل هذا الضرب