كما أن العلم هنا ليس درجة واحدة بل هو مستويات، فضلًا عن أن أغلب ما يُقال إنه علم يعارض الدين هو من المجال الفكري الذي لا علاقة له بميدان العلم إلا علاقة الاستغلال والاستثمار لما يخدم أهداف هذا التيار الفكري أو ذاك. فأجمل لفظ العلم هنا، وعندما حُلل ما يريدون به من مفردة "علم" ظهرت ثلاث صور قد يقع منها التعارض مع الدين؛ لأنها في الحقيقة ليست من العلم، ولذا فهي معارضة للدين وليست تعارضًا، فمن يتحرك من خلال "الإطار العلماني" أو "المنهج الحسي" أو "النشاط العملي" فهو لا يأتي بحقائق واقعية خارجية تتعارض مع الدين، وإنما يأتي بفلسفة يعارض بها الدين.
وعلى هذا فالتحليل للمفردتين الأساسيتين، ورفع الإجمال والتعميم عنهما يحيلان الموضوع من دعوى التعارض إلى عمل معارضة للدين، وهي من جنس الصدّ عن دين الله سبحانه، قال -تعالى-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)} [آل عمران: ٩٩].
فمن يتحرك في الإطار العلماني ويرى بأن العلم مصدره البشر ولا علاقة لنا بالوحي، فهو يعارض دين الله ويصد عن سبيله، ومن يجعل الحسي هو شرط العلم وما سواه فليس بعلم هو ممن يصدّ عن سبيل الله، ومن يأتي بنظريات في العلوم الاجتماعية "العملية" ويصادم بها دين الله فهو ممن يصدّ عن سبيل الله.
وهذه في الحقيقة لا يُقال عنها أنها تتعارض مع الوحي تعارض الحقائق، وإنما هي معارضة للوحي.
ثانيًا: ما المقدم عند التعارض؟
فإذا رُفع "الإجمال والتعميم" فإنه لا يُقال بتقديم العلم على الدين بحجة أن العلم يعتمد الحقائق المحسوسة، مع أنه ليس كله كذلك، وإنما -وهذا من باب التنزل مع الخصم- نقول كما قال علماء أهل السنة، هل الدليل النقلي والعلمي هما القطعيان أو الظنيان؟ أو ما كان أحدهما قطعيًا والآخر ظنيًا؟
فأما إن أريد بهما القطعيان، فلا نُسلم بإمكان التعارض حينئذ؛ لأن القطعي لا يعارضه قطعي آخر، وأما إن أريد بهما الظنيان، فالمقدم هو الراجح مطلقًا، سواء كان الدليل النقلي أو الدليل العلمي، وجاء التقديم بسبب الرجحان