للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العلمانية ذلك المكان، ولكن لابد للعلماء أن يتنفسوا هواء ذلك المكان وأن ينظروا إلى الأشياء من خلال النور الذي يتيحه لهم، فوقعوا بإرادتهم أو بغير إرادتهم في الاحتواء العلماني، فتوجه نشاطهم العلمي فيما بعد وفق الغايات العلمانية وتصوراتها.

وتحول العلماء إلى فئة مشاركة في انحراف مسيرة العلم الآيديولوجية، وأسهموا في إفساد العلاقة بين الدين والعلم، لاسيّما بعد أن استهوى الإلحاد والمادية طائفة منهم، وبدؤوا في إنتاج علومهم ونظرياتهم وبحوثهم في ظل الرؤية العلمانية التي يتنفسون هواءها وينظرون إلى الأشياء بواسطة عدساتها، وقد رأينا نماذج من ذلك في الفصل الأول، وأذكر هنا ببعض الخلاصات المهمة حول الموضوع:

[١ - أثر نشأة العلم في البيئة العلمانية]

إذا كانت العلمانية ذات وجه معرفي ينزع إلى الاكتفاء بالعالم المحسوس وعالم الظواهر وعالم الدنيا، ومنع البحث عما يتجاوز ذلك؛ فقد أثر هذا في العلماء، فأضافوا إلى نشاطهم في وصف الظواهر منع أي تفسير آخر يتجاوز الظواهر بحجة عدم دخوله ضمن المقاييس الكمية العلمية، وقد استنتج بعض العلماء الفلاسفة "أن الطبيعة نظام قائم في ذاته، يعمل وفق سببية آلية لا مكان للغايات فيها، الأمر الذي يعني، في نظرهم، تجريد الطبيعة من القداسة وبطلان القول بوجود الله" (١). وهو أمر مرتبط بالرؤية العلمانية الداعية إلى الاكتفاء بالدنيا والطبيعة وعدم النظر لما سواها، وتبعه تصور الطبيعة أيضًا مستقلة بذاتها غير مرتبطة بعالم آخر أو بغايات أخروية ومستقبلية. وقد كان لهذا أثره الكبير على نشاط العلماء، فما يقومون به إنما حدوده هذا العالم ولا علاقة له بأي عالم آخر.

[٢ - قناعة التيار العلمي بأهمية الفصل بين الدين والعلم]

وهي قناعة لم تكن اختيارية؛ فهم من جهة قد لقوا معاناة كبيرة من رجال الكنيسة، وهم من جهة أخرى يتحركون في فضاء علماني يفرض عليهم إقصاء


(١) انظر: المقدمة في فلسفة الدين، أديب صعب ص ١٨٤ - ١٨٥ ص ١٩٦ - ١٩٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>