للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها العقول" إلى أن قال: "لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة. ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان، كجماعة الماديين في كل زمان، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى .. إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا "تقدمية" وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها فجعل صفتهم المميزة، صفة: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} والحمد لله على نعمائه، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين! " (١).

[[مسألة] وللغيب أقسام]

فمنه الغيب المطلق الذي هو غيب عن جميع الخلق، ولا يعلمه أحد، وذلك مما استأثر الله بعلمه، ومنه ما عرفه رسله وأخبرونا به دون أن نستطيع معرفته بغير طريقتهم، كصفة الاستواء لله رب العالمين، وكعالم الملأ الأعلى، وكعلامات الساعة، مثل المسيح الدجال والدابة، فلا يعلم ذلك إلا من جهة الرسل، ولا يعرف البشر شيئًا منه بعقولهم وأدواتهم، فطريقهم لما علم منه هو الخبر المحض، فيكون مطلقًا من هذا الوجه، قال -تعالى-: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (٢٨)} [الجن: ٢٦ - ٢٨]، وقال الله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: ٦٥]، وقال -تعالى-: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (٩)} [الرعد: ٩].

ومنه الغيب النسبي الذي يعرفه البعض ويغيب عن آخرين، فهذا غيب لمن غاب عنه وليس غيبًا لمن شاهده وعلمه من الخلق من الملائكة أو الإنس أو الجن.

قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- حول قوله -تعالى-: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} "وهو سبحانه قال: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ} ولم يقل "ما" فإنه لما اجتمع ما يعقل وما لا يعقل غلب ما يعقل وعبر عنه بـ"من" لتكون أبلغ


(١) في ظلال القرآن ١/ ٣٩ - ٤٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>