والموقف الإلحادي ليس جديدًا في الفكر الغربي، وقد اشتهر في أوروبا لاسيّما بعد النشاط البارز للملحد الكبير "فيورباخ"، ثم التيارات المادية في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، ولكن ما يميز الوضعية المنطقية أنها تدعم موقفها الإلحادي باتكائها على المنهج العلمي والرؤية العلمية وهو بارز من عنوان البيان. ولكن استثمارها لنتائج العلم والمنهجية العلمية في دعم الإلحاد لم يستمر طويلًا، إذ واجهتهم تحديات فكرية داخلية وخارجية ولاسيّما حول معيار التحقق من المعرفة العلمية. ففي الداخل حدثت تراجعات وتحولات، وفي الخارجية كان أشهرها المجادلة الطويلة بين الوضعية وبين فيلسوف العلم اليهودي "بوبر"، وما زالت مستمرة، وقد انتقلت بعض صورها وصراعاتها إلى بلاد المسلمين، وكما رأينا ميل المشتغلين بفلسفة العلم في بلاد المغرب إلى الإبستمولوجيا الفرنسية فقد مال بعض المشتغلين بفلسفة العلم في مصر إلى الوضعية المنطقية مع مدرسة "زكي نجيب محمود" أو إلى "بوبر" وأتباعه كما أشار إلى ذلك الدكتور ماهر عبد القادر أحد المهتمين بهذا المجال (١).
ومن مفارقات المذهب الوضعي أنه رغم عدم القطع بصدق المعرفة العلمية، واعتبارهم إياها من قبيل المواضعات العلمية ذات البعد النسبي، إلا أنهم يجعلونها المعرفة الوحيدة المقبولة والصحيحة, إذ يبقى السؤال: ومن أين لكم بصحة جوابكم القطعي حول كونها الوحيدة المقبولة؟ ألأن الموقف القطعي يعتمد على معرفة؟ ومع ذلك فإن الوضعية المنطقية في الموقف من النظريات العلمية تعد أقلّ تطرفًا من جذرها التاريخي المتمثل في وضعيات القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، ولكنها امتداد له في الإلحاد باسم العلم.
[٤ - فلسفة العلم في الفكر العربي]
قد تخالف هذه الفقرة مسار البحث، فهو عن المسار الغربي وهي عن العربي، وإنما جاء دخولها لمناسبة خاصة، ففي منتصف القرن الأخير أصبح الاتصال والتواصل بين الغرب والشرق ميسورًا وسريعًا ومن ذلك مثل هذا الميدان. إذا كانت فلسفة العلم هي رؤية فلسفية حول العلوم الحديثة، فإن هذه
(١) انظر: فلسفة العلوم، د. ماهر عبد القادر ١/ ٢٠، وحول "مدرسة بوبر" انظر أيضًا لـ"ماهر": مقدمة الجزء الثاني من الطبعة الأولى ٢/ ١١ - ١٤.