لقد كان الهدف نبيلًا عند الاتجاه التوفيقي وصاحبه جهد عظيم لا يمكن الاستهانة به، ومع ذلك فقد تلبّس بما يُضعفه وهو الاعتماد على آلة كلامية ثبت عدم صلاحيتها لحل الإشكال، ولاسيّما بعد النقد الجذري لهذه الآلة مع شيخ الإسلام ابن تيمية، فلا يصح من عالم عاقل قد اطلع على ذاك النقد العظيم أن يتغافل عنه ويعود من جديد لمثل هذه الآلة، وهذا هو المأخذ المهم على الاتجاه التوفيقي، ولهذا سيبقى ابن تيمية -رحمه الله- حيًا بعلمه ما وجد دعوى للتعارض، ولاسيّما إذا استعيد قانون التأويل الكلامي المشهور.
ولكن عمل الاتجاه التوفيقي لم يكن كله سعي للتوفيق، بل هناك إلى جانبه عمل نقدي مهم، استلم دعاوى المتغربين وأنهكها وكشف الكثير من باطلها وزيفها والأهواء التي خلفها، وهي مساحة كبيرة من نشاطهم، وهي مادة جيدة لا يستغني عنها الفكر الإسلامي المعاصر.
وخلاصة القول إن الاتجاه التوفيقي قدم نقدًا مهمًا للاتجاه التغريبي حول دعوى التعارض، وهي مادة ثرية تحتاج إلى تمحيص لإخراج المفيد منها، ومع ذلك ففي الجانب الآخر، أي جانب ما سلّموا به من توهم التعارض قد عالجوه بأداة لا تصلح لذلك، فمفاسدها أكثر من مصالحها، وكثير من مسلماتها خطأ محض سبق لأهل السنة بيانها. فإن جاء مفكر أو باحث إسلامي يخالف هذا الاتجاه في مسعاه التوفيقي فلا يعني أنه لا يستفيد من مسعاه النقدي، كما أن الاستفادة من الاتجاه التوفيقي من نقده لا يعني عدم التنبيه إلى خطأه في عمله التوفيقي.
[أصول عامة حول دعوى التعارض بين الدين والعلم]
هناك أصول عامة يُسلّم بها الفكر الإسلامي قبل تنزله في مناقشة الاتجاه التغريبي في مسألة دعوى التعارض، وأهمها:
١ - اليقين التام بما في الوحي، وهذا اليقين عند المسلم لا يزعزعه شيء، فإنْ التبس عليه أمرٌ رجع إلى الكتاب والسنة وإلى أولي العلم بهما، مع تمام التسليم بأن الرب سبحانه كلامه حق وصدق، قال -تعالى-: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا}[النساء: ٨٧]، وقال -تعالى-: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا}[النساء: ١٢٢] وأنه العليم الحكيم، فلا يكون في أمره إلا ما يوافق علمه وحكمته