فهذه الرؤية العلمية الفكرية الحديثة أوصلت صاحبها في الحقيقة إلى عملية حقيقتها التلاعب بالوحي، تحت مسمى نظرية التفسير المعاصرة.
* * *
[القسم الثاني: دعوى وجود رأي علمي آخر حول بعض الغيبيات دون شرط المعارضة]
فهذا يكون في عالم المخلوقات الموجودة، ولكن بداية خلقها كان في أزمان بعيدة، مثل خلق السماوات والأرض والكائنات الحية والإنسان، فهذه إما أن العلم الحسي لا يستطيع القطع فيها، وهذا هو حال كل الأمور البعيدة في الزمن الماضي، ولذا كل ما يُقال في هذا الباب هو من النظريات التي لا يمكن القطع بها، وهي نظريات تقبل التغير والتطور بحسب فلسفة العلم المعاصرة، وقد يأتي زمان يحدث فيه قطيعة معرفية بين نظريات تسود في وقت وبين نظريات جديدة تولد، لاسيّما حول خلق السماوات والأرض وخلق الحياة وخلق الإنسان، فقد جاء في الخبر ذكر ذلك بأوصاف محددة، ولكنها عند أهل الإِسلام من أمور الغيب التي لها حقيقة موضوعية يُعرف معناها ولا تعرف كيفيتها، فالكيفية من علم الغيب، ومعناها معلوم بما ورد في الخبر، فالله سبحانه هو خالق السموات والأرض والحياة والإنسان، وما أشهدنا على خلق ذلك، قال -تعالى-: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (٥١)} [الكهف: ٥١]، وقد أخبرنا سبحانه بأشياء عن خلقه فعرفنا معناها ولكن جهلنا كيفيتها كما هو حال الغيب.
فالقول في هذا الباب بأنه وإن تكلم علماء الطبيعة على هذه الأمور، وقدّموا نظرياتهم المختلفة، فإنه في فلسفة العلم المعاصرة لا يُقطع بها، فالنظرية كما سبق مرارًا هي أداة للفهم والتفسير، وقد تأتي صورة أخرى لها في زمن لاحق. فمن باب أولى أن لا يُقطع بها عند المسلمين؛ لأنهم يعلمون أن هذه النظريات رغم ما تتمتع به من تجارب واسعة وحسابات دقيقة فإنها في غياب الاسترشاد بالوحي تخبط في مجاهيل الماضي، مما يجعل العلمي والموضوعي منها ناقصًا حتى يرتبط بالوحي. فإن ما يذكرونه إنما هو من النظريات التي هي غاية ما وصل إليه جهدهم في ظل السقف المعرفي الذي أتيح لهم بأجهزتهم