للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

علومها، فهي بحسب مذهبهم كلمة لا تدخل إطار العلم؛ لأنها لا تدخل في القسم الأول ولا القسم الثاني (١)، وتكون كلمة فارغة لا معنى لها. فهذا الموقف الأيديولوجي الملحد هو ما أثار ضجة كبيرة ضد الوضعية المنطقية في الغرب؛ فإن الانتقال بفلسفة العلم إلى حدود الإنكار للعقائد والتكذيب بها بحجة أنها لا يمكن التحقق منها، وفق معايير الوضعية المنطقية، هو أحد صور الانحراف الكبيرة في فلسفات العلم المعاصرة، وأبرز صور الاستثمار السيئ لثمار العلم الحديث في إنكار ما لا يدخل في مجاله. فلو توقف الأمر على حدود: ما الذي يعدّ علمًا رياضيًا أو طبيعيًا؟ وما حدوده؟ وما إمكانياته؟ لما حدث إشكال، وما زال العالم مختلفًا حولها إلى الآن. لكن العمل غير المشروع هو جعل العلم الرياضي الاستنباطي أو الطبيعي الحسي والتجريبي العلم الوحيد المعتبر وما عداه فوهم وكلام فارغ.

لقد جعل الوضعيون المنطقيون من بين مهامهم تصفية العلم من كل المفاهيم الدينية والميتافيزيقية وتسوير العلم بأسوار لا تسمح بدخول مثل تلك المفاهيم إلى دائرة العلم. ففي البيان الذي أصدرته المجموعة بعنوان "فهم علمي للعالم" ما يؤكد ذلك، فهو يقوم على استبعاد الميتافيزيقا من كل فروع المعرفة، ومن ذلك "تنقية النظريات العلمية من الميتافيزيقا"؛ لأن يقين نظرية ما يأتي فقط من المشاهدة؛ أي: من الأحاسيس، وما لا صلة له بالمشاهدة والأحاسيس فيجب تنقية النظريات العلمية منه، وهي الصورة التي عرفت مع "ماخ" وأحيتها الوضعية المنطقية (٢). وبدأت المجموعة بمراجعة العلوم كلٌ في تخصصه وتنقيتها من المفاهيم الميتافيزيقية بحسب المبادئ المقترحة في البيان، وهدفهم المشترك -رغم الاختلافات بينهم- هو إلغاء الميتافيزيقا. وقد اتخذت الوضعية المنطقية من مفهوم الميتافيزيقا مدخلًا للانحراف بالعلم على المستوى الأيديولوجي للتيار، فجعلت منها منطلقًا لاستبعاد الدين والانتقاص من قيمه وعدم الاعتراف بمسلماته، ومن تسامح منهم مع الدين فقد أحاله إلى مجال الأساطير والفنون والموسيقي المعبرة عن مشاعر وجدانية، لا أنه ذو مرجعية حقيقية أو مضمون صحيح.


(١) انظر: المرجع السابق ص ٤٥.
(٢) انظر: رودولف كارناب. نهاية الوضعية المنطقية ص ٤١.

<<  <  ج: ص:  >  >>