للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مع "داروين" وبعد الثورة العلمانية ونجاح الاتجاهات المادية أقفل باب المجاملة ومراعاة الدين وصُرّح بالإلحاد أو ما يؤدي إليه.

ونشأت ناشئة ترى العلم رديف الإلحاد وصديقه، وأن العلم إن لم يكن مؤيدًا للإلحاد ففيه شك، وظهرت ظواهر عجيبة بسبب نجاح هؤلاء في قيادة العلم والعناية به مما سنرى بعض معالمه في فقرات قادمة.

رابعًا: التفسير العلمي للدين. أصبح لظاهرة الدين في حياة البشر تفسيرٌ علميٌّ مزعومٌ، ويتبع ذلك كل ما يرتبط بالدين من أصول عقدية أو شرعية أو خلقية، والخلقية هي ما كان يحرص عليه كثير من مفكري الغرب في العصر الحديث، إذ هم لا يسلمون بصحة عقائد وشرائع النصرانية التي عرفوها لكنهم يعترفون بقيمتها الخلقية.

ولكن حتى هذه البقية الباقية ستقضي عليها الدارونية، فمع "داروين" نجد أن الطبيعة هي التي توجد وهي التي تتحكم بالتغيير، ومما أوجدته الدين ذاته بعقائده وشرائعه وأخلاقه، أليست الطبيعة هي التي أوجدت العقل والقلب والمشاعر والأحاسيس، فهي أيضًا التي أوجدت ما يرتبط به مما يعتقد أنه عقيدة (١) أو يُتخلق به ويعمله من منظور الحق والواجب.

ومن يتأمل في هذا التاريخ يلحظ كيف كان المسار سريعًا: فمع التنوير ضُربت الديانة الكاثوليكية، ومع الثورة العلمانية أزيلت مؤسستها الرسمية، ولكن بقيت بقايا تمسك ببعض قيم الدين فجاء دور القضاء عليه مع داروين، فإنه مع الدارونية حتى مفهوم الحلال والحرام والصواب والخطأ والجميل والقبيح والنافع والضار والمسموح الممنوع، كل ذلك لا معايير ثابتة له وليس له أصل سماوي، وتم تعطيل خلق الله سبحانه وأمره، {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٥٤)} [الأعراف: ٥٤]، فإذا تعطل الخلق تعطل الأمر، والأمر هو شريعة رب العالمين من واجب وحلال وحرام وقيم وأخلاق وسلوك.


(١) انظر مثلًا: تشكيل العقل الحديث، برينتون ص ٢٢٢، وانظر، تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص ٤٢٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>