للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الإقرار بأية صلة بين المخلوقين وخالقهم، وحتى في باب كيف ظهرت الحياة في أول خلية وجدت بحسب نظريته، يقول: إن الطبيعة أوجدتها صدفة؛ لأنه لا يُثبت للطبيعة قصدًا وإرادة حتى تخلق ما تشاء بالصورة التي تشاء، وإلا كانت بديلًا عن الرب عند المقرين بالخالق، وعندها فالأولى الإقرار به بدل القول بالطبيعة، فمن شدّة فراره من إثبات جانب غيبي أو ما يسمونه ميتافيزيقي، فإنه يستبدله بمثل هذا الفرض: أن الطبيعة تخبط خبط عشواء، وصدفة وجدت الحياة في الخلية الأصل للكائنات والأنواع الحية (١)، وقد ترسخ في ذاك العصر القول بالطبيعة داخل حقول العلم المختلفة دون النظر إلى أبعد منها.

ثانيًا: تعزيز الاتجاه المادي: الذي ظهر مع التنويريين في القرن (١٢ هـ - ١٨ م) وبرز في اليسار الهيجلي في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر فولدت أيديولوجيات ومذاهب مادية كبرى في نهاية القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وأشهرها الماركسية، وهذا واضح في تحمس الاتجاه الماركسي لداروين وإعجابهم به.

فإذا كان العلم بحسب زعم "داروين" يثبت أن الطبيعة هي التي أوجدت الإنسان، فإنها هي التي أوجدت عقله وغرائزه وقيمه، حتى المعاني الدينية. فإن الماركسية متوازية مع الدارونية ترى بأن الجدل المادي والتاريخي وصراع الطبقات وظهور مجتمعات واختفاء أخرى يرجع أيضًا إلى المادة وطبيعتها. وإذا كان الاتجاه المادي قبل داروين يبني نقده للدين الحق على أوهام عقلية، فإنه بعد داروين يبني أصوله الإلحادية على أوهام علمية، ويزعم بأن هذه الأوهام العلمية تؤيد المبادئ المادية، وأصبحت المادية عندهم هي صورة العلم (٢).

ثالثًا: أصبح "داروين" قدوة للعلماء الملحدين ومن ثم تسليم زمام قيادة العلم لأمثال هؤلاء الملحدين، وذلك أنه قبل داروين لم يكن عالم من العلماء البارزين يدّعي الإلحاد، وإن كان أكثرهم لا يعتني بالدين، فقد رأينا بأن أغلبهم كان من خريجي مدارس كنسية أو لهم عناية باللاهوت، من أمثال مؤسسي الثورة العلمية مثل كوبرنيكوس وكبلر وبراهي وجاليليو ونيوتن، وكان يغلب عليهم الحرص على التوفيق بين نظرياتهم وبين الدين -صدقًا أو مجاملة ومداراة- ولكنه


(١) انظر: حقيقة الخلق ونظرية التطور، محمَّد كولن ص ٧٨ وما بعدها، ترجمة أورخان محمَّد.
(٢) ستأتي مناقشة هذه الفقرة في مبحث تالي ص ٢١٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>