فتحول الحل المقترح وهو العلمنة من كونه عملية فصل مسالمة ذات منحى موضوعي في الظاهر، ليصبح مذهبًا فكريًا ورؤية بديلة عن الدين، نقف مع بعض معالمها وآثارها فيما تبقى من هذه الفقرة.
ربما يحرص بعض العارضين للعلمانية على عرضها وكأنها صنو العلم، كيف لا، وهي في نظرهم التي ناصرت العلماء ووقفت في صفهم، ولكن الحقيقة غير ذلك، فالعلمانية ما هي إلا مذهب من المذاهب التي ظهرت في أوروبا، وهي كغيرها تسابق على الظفر بالسلاح الجديد والفرس السريع وهو العلم. والدليل على أنها مذهب يستغل ثمار العلم كغيرها من المذاهب أن رواد الثورة العلمية لم يكونوا من الدهريين أو المحاربين للكنيسة وإن اختلفوا معها. وربما كانت دعوة بعض العلماء إلى الفصل بين الكنيسة والعلم مرادهم منها مجرد الفصل، بخلاف دعاة العلمانية الذين يدعون للفصل مع استبدال الرؤية الدينية برؤية دنيوية. وهذه المسألة قد وصل إليها أحد العلمانيين العرب، حيث يقول بعد تحليله للمسألة:"نستنتج من ذلك أن الكنيسة لم تكن على صورة منهجية ولا كانت بالضرورة عائقًا في وجه البحث العلمي، وأن العلمانية ليست بالشأن المرتبط ضرورة بالفاعلية العلمية"(١)، ومما يدل على ذلك أن أغلب علماء الطبيعة كانوا أهل تدين بدينهم.
العلمانية إذًا ليست موقفًا محايدًا تجاه الحياة تقصد الفصل فقط؛ بل هي رؤية للكون والحياة، ومذهب شامل ومتكامل، فالحيادية أمر مزعوم حتى في المظهر البسيط في ظل الجوّ العلماني، ولنضرب مثلًا عن صعوبة الحيادية في هذا الجوّ العلماني بجملة نجدها عادة في الكتب والوسائل الإعلامية العلمانية أو غيرها من مثل:"تعد نظرية التطور آخر ما قاله العلم عن وجود الحياة"، فاستخدام كلمات مثل:"آخر" و"العلم" رغم أن ظاهرها الحيادية والصيغة الإخبارية الموضوعية؛ إلا أنها في الجوّ العلمي العلماني محمّلة من الدماغ إلى أخمص القدم بالدعائية العلمانية لتلك النظرية، وتحمل أعلى درجات التحسين والمدح والتقويم والإيجابية؛ ذلك أن الأصل الثابت عند الناس في الغرب وأغلب بلاد العالم بأن العلم قوي ويقيني، وأنه "متقدم" و"متطور" نحو الأعلى