والأوثق والأصدق، فهو في خط صعود مستمر وليس خطًا متذبذبًا بين الأعلى والأسفل، هذا الأصل الثابت عند الكثير من الناس يمثل قالبًا من القوالب الصلبة والقابل للتعبئة باستمرار واستقبال النماذج المختلفة، وعندما تأتي كلمات مثل "آخر والعلم"؛ تنصرف الرؤية مباشرةً عند المتلقي إلى أن هذا يعني أنه أحسن ما وجد إلى الآن، لاسيّما مع عدم تقبل هذا القالب لأي مزاحمة دينية مهما كانت.
ويكذِبُ أولئك الداعون إلى علمنة العلم عندما يزعمون بأن العلمنة ما هي إلا فصل بين الدين والعلم؛ فهي تتجاوز الفصل إلى التأطير للعلم والإحاطة به وفق رؤيتها، فهي "في واقع الأمر إعادة صياغة للمجتمع ككل عن طريق تفكيكه واستبعاد سائر العناصر المركبة التي تستعصي على القياس، العناصر الإنسانية أو الربانية، التي يتركب منها، وإعادة تركيبه على هدي المعايير العقلية والعلمية الواحدية المادية، ومن ثم يتوافق هذا الواقع الاجتماعي مع القوانين العلمية الواحدية الصارمة، ويخضع للاختبارات والإجراءات الكمية وللقياس، فهو يمحو سائر الثنائيات التي تفترض وجود أكثر من جوهر وأكثر من قانون، ويستبعد كل الخصوصيات والمنحنيات الخاصة للظاهرة، التي تتحدى القانون العام، ويرفض كل المطلقات التي تشكل تجاوزًا للقانون المادي الواحد العام وخرقًا له وتشكل عدم استمرار في الكون، وينكر كل المعايير الأخلاقية الثابتة فهي خارجة عن الظاهرة المادية موضع الدراسة، ويتعامل مع المحدود ومع ما يقاس، فاللامحدود وغير المقيس لا يمكن تطبيق النماذج الكمية عليه"(١). فهي إذًا جهاز خطير له آلياته في التفكيك والتركيب وإعادة التشكيل وفق رؤاها وقواعدها، وهذا يعني أنها مذهب فعّال له آلياته التنفيذية، هي مذهب ذو أوجه مختلفة كما يوضحها لنا أحد أقطاب الفكر العلماني العربي -العظمة- فلها وجه معرفي "يتمثل في نفي الأسباب الخارجية على الظواهر الطبيعية أو التاريخية"، ومثل هذا النفي يتجاوز فكرة الفصل بين العلم والدين إلى إعطاء تفسير شامل غير ديني لتلك الظواهر، ولها وجه مؤسسي "يتمثل في عزل الدين عن
(١) الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، د. عبد الوهاب المسيري ص ١٣٠ - ١٣١، والمؤلف يعبر عن العلمانية بمصطلح "الترشيد".