للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

انحصرت المعرفة الحقيقية عند "هيوم" في العلوم الرياضية وخرج ما سواها من دائرة العلم، وصوّر العلم على أنه الممثل الوحيد للحقيقة وكل ما عداه فيجب عدم قبوله، ليصل الحال بهم إلى تقديس العلم وإلغاء ما سواه حتى وإن كان دينًا، وقد وقع الاتجاه العقلي المنافس للتجريبي تحت تأثير هذه الرؤية عبر الفيلسوف الألماني المشهور كانط الذي أعلن تأثره بـ"هيوم" في الموقف من الميتافيزيقا، وكان مشروعه النقدي الكبير يدور حول الآتي: كيف يمكن أن نجعل من الميتافيزيقا علمًا يقينيًا تشبه في ذلك العلوم الرياضية والطبيعية (١)؟ حاول، ومع ذلك لم يصل إلى جواب، وما وصل إليه بعد مشواره الطويل هو ما سمِّيَ فيما بعد بالفلسفة النقدية التي حاول فيها الجمع بين المذهبين الكبيرين "العقلي والتجريبي"، إلا أن مشكلة الميتافيزيقا بموضوعاتها الكبيرة "الله والحرية الإنسانية وخلود الروح" (٢) كما هي عندهم لم تجد حلّها إلا في العقل العملي الأخلاقي (٣) في نوع من الاستسلام الضمني للموقف التجريبي الحسي.

من أهم ما أورثته تجريبية القرن الحادي عشر/ السابع عشر والثاني عشر/ الثامن عشر لخلفائهم في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر وكان له أثره في مسيرة العلم، ما يلي:

الدعوة إلى الاكتفاء بما يقوله العلم والاستغناء به عما سواه بما في ذلك الاستغناء عن الدين واللاهوت والميتافيزيقا، والوقوف بقوّة ضدها؛ لأن الحقيقة بحسب زعمهم لا توجد إلا في العلم، ووضعهم للمعيار الحسي بوصفه أحدَ أهم المعايير في قبول الحقائق الموجودة الواقعية. ومما أورثته أيضًا ما تزعمه لنفسها من أنها العلم نفسه، وإن كان ذلك بلغة فلسفية فكرية، وتزعم لنفسها موقفًا عمليًا أخلاقيًا يتمثل في تطهير العلم من كل ما ليس بعلم على أن معيار ما ليس بعلم هو ما لا يحس، وهذا الواجب العملي الذي تبنوه وجه مسار التيار إلى إبعاد كل معنى ديني من العلم الحديث.

فانطلق الاتجاه التجريبي في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر من مجموع


(١) انظر: الميتافيزيقا عند الفلاسفة المعاصرين، د. محمود رجب ص ٥.
(٢) انظر: كنط وفلسفته النظرية، د. محمود زيدان ص ٢٦١.
(٣) انظر: المرجع السابق ص ٧١ - ٧٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>