للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

امتد الجهد السابق في القرن العاشر والحادي عشر الميلادي تقريبًا (٤ - ٥ هـ)، ثم جاء بعد ذلك: عصر الترجمات الكبرى في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، وهو قرن تحولت فيه أوروبا ومدنها العلمية إلى مراكز ترجمة لما عند المسلمين. يقول شارل هسكنس عن عمل الترجمة في ذلك العصر: "لم يكن عمل المترجمين منحصرًا في مكان خاص، بل إن النقل قد تمّ ببرشلونة وطرزونة وسيجوفيا وليون وبمبلونا، كما أنه ظهر أيضًا من وراء جبال البيريني بطلوزة وبيزبي وأربونة ومرسيليا، ولكن المركز الرئيسي للترجمة كان في النهاية مدينة طليطلة" (١).

وستتواصل جهود الترجمة وتتحول إلى نمط ثقافي سائد في أوروبا، فتظهر مدارس للترجمة في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي/ السابع الهجري، ففيه: "تكاثرت التراجم من العربية إلى اللاتينية إلى درجة أن سارتون. . قسمها إلى أربع مجموعات: إيطاليو إيطاليا، الصقليون، وتراجمة مونبليه، ثم الإسبان. ." (٢). وهكذا كان حال أوروبا في ما يقرب من أربعة قرون، نشاط كبير في الترجمة، يعجب منه الناظر في زمننا وهو ينظر في الحال التي نحن عليها، وربما بعض الناس اليوم لو قرؤوا مثل هذا الكلام ما صدقوه بعد أن انهارت قواهم المعنوية أمام الحضارة الغربية الحديثة في ظل هزيمة نفسية مؤلمة ربما يعالجها تذكر مثل هذا التاريخ.

كانت إيطاليا منطلق عصر النهضة الأوروبية، ولا غرابة وهي تلتصق ببوابة مهمة تُطل من خلالها على علوم المسلمين وهي صقلية (٣)، وقد استفادوا منها كثيرًا، لاسيّما بعد استيلائهم عليها. لكن البوابة الكبرى لاسيّما في القرن الثاني عشر كانت الأندلس المنافسة لصقلية، وذلك بعد أن استولى عليها النصارى وقاموا بأحد أبشع المذابح المعروفة في التاريخ البشري، وأصبحت مركز التعلم الأول لأوروبا "والمركز الثقافي الكبير، حيث كان مثقفو أوروبا كلها


(١) كتاب "بيت الحكمة" التونسي، مقالة د. محمد السويسي: انتقال العلوم العربية والحضارة الإسلامية إلى الغرب ص ٨٨، وليس المهم معرفة تلك المدن؛ لأن غرضي بيان أن أوروبا تحولت إلى ورشة عمل لترجمة الحضارة الإسلامية.
(٢) تاريخ العلوم العام ١/ ٤٦٤.
(٣) كتاب بيت الحكمة السابق ص ٨٧ - ٨٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>